..

ابو بكر الصديق ( رضي الله عنه )

  عبد الله بن عثمان بن عامر  ابن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة  شهد بدرا مع رسول الله  وأم أبي بكر رضي الله عنه - :
أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهرق بن مالك ، وأم أم الخير : دلاف وهي أميمة بنت عبيد بن الناقد الخزاعي ، وجدة أبي بكر : أم أبي قحافة أمينة بنت عبد العزى بن حرثان بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب "  لقبه رسول الله  بالصديق  أول الخلفاء الراشدون   وأحد أوائل الصحابة الذين أسلموا من أهل قريش ورافقوا النبي محمد بن عبد الله منذ بدء الإسلام، وهو صديقه ورفيقه في الهِجْرَةُ  إلى المدينة المنورة وأحد العشرة المبشرين بالجنة . وهو والد أم المؤمنين عائشة زوجة الرسول. ولد بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر الموافقة لسنة 50 ق.هـ وسنة 573م. كان سيدًا من سادة قريش وغنيًا من كبار أغنيائهم وكان ممن رفضوا عبادة الأصنام في الجاهلية. يُعرف في التراث السني بـ "أبي بكر الصّدّيق" لأنه صدّق النبي محمد في قصّة الإسراء والمعراج، وقيل لأنه كان يصدّق النبي في كل خبر يأتيه. بُويع بالخلافة يوم الثلاثاء 2 ربيع الأول سنة 11 هـ، واستمرت خلافته قرابة سنتين وأربعة أشهر. توفي في يوم الإثنين 22 جمادى الأولى سنة 13 هـ الموافق 23 أغسطس 634م
حياته قبل الإسلام
ولد أبو بكر في مكة المكرمة بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر. ونشأ فيها في حضن أبوين لهما الكرامة والعزّ في قومهما مما جعل أبا بكر ينشأ كريم النفس، عزيز المكانة في قومه. وكانت إقامته في مكة لا يخرج منها إلا لتجارة، إذ كان في الجاهلية رجلاً تاجرًا، ودخل بصرى من أرض الشام للتجارة وارتحل بين البلدان وكان رأس ماله 40 ألف درهم، وكان ينفق من ماله بسخاء وكرم عُرف به في الجاهلية
كما كان من رؤساء قريش في الجاهلية وأهل مشاورتهم ومحببًا فيهم أخرج ابن عساكر عن معروف بن خربوذ (مولى عثمان) قال: «إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أحد عشر من قريش اتصل بهم شرف الجاهلية والإسلام فكان إليه أمر الديّات والغرم». وكان أعلم قريش بأنساب القبائل وأخبارها وسياستها، وبما كان فيها من خير وشر، فكانت العرب تلقبه بـ "عالم قريش".كان رجلاً تاجرًا ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر لعلمه وتجارته وحسن مجالسته،وقد قال له ابن الدغنه حين لقيه مهاجرًا: «والله إنك لتزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف وتكسب المعدوم». كان أبو بكر يعيش في حي حيث يسكن التجّار؛ وكان يعيش فيه النبي، ومن هنا بدأت صداقتهما حيث كانا متقاربين في السنّ والأفكار والكثير من الصّفات والطّباع.
كان أبو بكر ممن حرّموا الخمر على أنفسهم في الجاهلية، فلم يشربها وقد أجاب من سأله هل شربت الخمر في الجاهلية؟ بقوله: «أعوذ بالله»، فقيل: «ولم؟» قال: «كنت أصون عرضي، وأحفظ مروءتي، فإن من شرب الخمر كان مضيّعًا لعرضه ومروءته». ولم يسجد أبو بكر لصنم قط، قال أبو بكر في مجمع من الصحابة: «ما سجدت لصنم قط، وذلك أنّي لما ناهزت الحلم، أخذني أبو قحافة بيدي فانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام، فقال لي: هذه آلهتك الشّمُ العوالي، وخلاني وذهب، فدنوت من الصنم وقلت: إني جائع فأطعمني فلم يُجبني فقلت: إني عار فأكسني، فلم يجبني، فألقيت عليه صخرة فخرَّ لوجهه».
صفاته
كان أبو بكر أبيض البشرة نحيف الجسم خفيف العارضين (صفحتا الوجه) في ظهره انحناء لا يستمسك إزاره يسترخي عن حقويه، معروق الوجه (لحم وجهه قليل)، غائر العينين نأتئ الجبهه، عاري الأشاجع (أصول الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف).
ذرية أبي بكر الصديق وزوجاته
قتيلة بنت عبد العزى العامرية القرشية: وقد اختلف في إسلامها، وهي والدة عبد الله وأسماء. كان أبو بكر قد طلقها في الجاهلية، فيها نزل من القرآن آية: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾  بعد أن رفضت ابنتها أسماء من أن تدخلها بيتها في المدينة المنورة.
أم رومان بنت عامر الفراسية الكنانية: وهي من بني الحارث بن غنم من قبيلة بني كنانة بن خزيمة، مات عنها زوجها الحارث بن سخبرة في مكة، فتزوجها أبو بكر، وأسلمت قديمًا، وهاجرت إلى المدينة المنورة وهي والدة عبد الرحمن وعائشة. توفيت في المدينة المنورة في ذي الحجة سنة 6 هـ.
أسماء بنت عُمَيس الشهرانية الخثعمية: أسلمت قديمًا قبل دخول دار الأرقم بن أبي الأرقم، وهاجر بها زوجها جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة، فولدت له هناك: عبد الله، ومحمدًا، وعونٍا. وهاجرت معه إلى المدينة المنورة سنة 7 هـ، فلما استشهد زوجها جعفر يوم مؤتة سنة 8 هـ وبعد وفاة أم رومان بنت عامر الكنانية، تزوج أبو بكر من أسماء بنت عميس، فولدت له: محمدًا وقت الإحرام فحجت حجة الوداع، ثم توفي أبو بكر، فغسّلته. ثم تزوج بها علي بن أبي طالب
حبيبة بنت خارجة الخزرجية الأنصارية: أسلمت وولدت لأبي بكر أم كلثوم بعد وفاته. تزوجها من بعده "خبيب بن أساف بن عتبة بن عمر"
إسلام أبى بكر الصدّيق:
كان أبو بكر من رؤساء قريش، وعقلائها، وكان قد سمع من ورقة بن نوفل وغيره من أصحاب العلم بالكتب السابقة، أن نبيـًا سوف يبعث في جزيرة العرب، وتأكد ذلك لديه في إحدى رحلاته إلى اليمن؛ حيث لقي هنالك شيخـًا عالمـًا من الأزد، فحدثه ذلك الشيخ عن النبي المنتظر، وعن علاماته، فلما عاد إلى مكة أسرع إليه سادة قريش: عقبة بن أبى معيط، وعتبة، وشيبة، وأبو جهل، وأبو البخترى بن هشام، فلما رآهم قال لهم: هل نابتكم نائبة؟ قالوا: يا أبا بكر قد عظم الخطب، يتيم أبى طالب يزعم أنه نبي مرسل، ولولا أنت ما انتظرنا به فإذا قد جئت فأنت الغاية والكفاية، فذهب إليه أبو بكر، وسأله عن خبره؛ فحكى له النبي*صلى الله عليه وسلم* ما حدث، ودعاه إلى الإسلام؛ فأسلم مباشرة، وعاد وهو يقول: " لقد انصرفت وما بين لابَّتَيها أشد سرورًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم* بإسلامي"، وكان أبو بكر أول من أسلم من الرجال.
هجرة أبى بكر الصدّيق:
لما أذن الله (عز وجل) لنبيه بالهِجْرَةُ  إلى المدينة أمر النبي(صلى الله عليه وسلم) أصحابه أن يهاجروا، وجعل أبو بكر يستأذن في الهِجْرَةُ والنبي(صلى الله عليه وسلم) يمهله، ويقول له: (لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبًا)، حتى نزل جبريل على النبي، وأخبره أن قريشًا قد خططت لقتله، وأمره ألا يبيت ليلته بمكة، وأن يخرج منها مهاجرًا، فخرج النبي (صلى الله عليه وسلم) وفتيان قريش، وفرسانها محيطون ببيته، ينتظرون خروجه ليقتلوه، ولكن الله أخذ أبصارهم فلم يروه، وتناول النبي (صلى الله عليه وسلم) حفنة من التراب، فنثرها على رؤسهم، وهم لا يشعرون، وذهب (صلى الله عليه وسلم) إلى بيت أبى بكر {وكان نائمًا فأيقظه}، وأخبره أن الله قد أذن له في الهجرة، تقول عائشة: لقد رأيت أبابكر عندها يبكى من الفرح، ثم خرجا فاختفيا في غار ثور، واجتهد المشركون في طلبهما حتى شارفوا الغار، وقال أبو بكر: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم): (فما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!)، وأقاما في الغار ثلاثة أيام، ثم انطلقا، وكان أبو بكر أعرف بالطريق، وكان الناس يلقونهما، فيسألون أبا بكر عن رفيقه فيقول: أنه رجل يهدينى الطريق، وبينما هما في طريقهما إذ أدركه سراقة بن مالك (وكان قد طمع في النياق المائة التي رصدتها قريش لمن يأتيها بمحمد)، ولما اقترب سراقة رآه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا، ودنا سراقة حتى ما كان بينه وبينهما إلا مقدار رمح أو رمحين، فكرر أبو بكر مقولته على النبي (صلى الله عليه وسلم)، وبكى فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم) : لِمَ تبكي؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، والله ما أبكي على نفسي، ولكنى أبكى عليك، فدعا النبي (صلى الله عليه وسلم) وقال: (اللهم اكفناه بما شئت)، فساخت قوائم الفرس، ووقع سراقة وقال: يا محمد إن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فو الله لأعمّينَّ على مَن ورائي، فأجابه النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى طلبه، ودعاه إلى الإسلام ووعده إن أسلم بسوارى كسرى، وإستمرا في طريقهما، حتى بلغا المدينة، واستقبل الصحابة {مهاجرون وأنصا} رسول الله وصاحبه بسرورٍ وفرحٍ عظيمين، وانطلق الغلمان، والجواري ينشدون الإنشودة الشهيرة: طلع البدر علينـا من ثنيات الوداع
اضطهاد أبى بكر الصدّيق:
كان أبو بكر ذا مكانة ومنعة في قريش؛ فلم ينله من أذاهم ما نال المستضعفين، ولكن ذلك لم يمنع أبا بكر من أن يأخذ حظه وقسطه من الأذى، فقد دخل النبي(صلى الله عليه وسلم) الكعبة، واجتمع المشركون عليه، وسألوه عن آلهتهم {وهو لا يكذب} فأخبرهم؛ فاجتمعوا عليه يضربونه، وجاء الصريخ أبا بكر يقول له: أدرك صاحبك، فأسرع أبو بكر إليه، وجعل يخلصه من أيديهم، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربى الله"، فتركو  رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وجعلوا يضربونه حتى حمل أبو بكر أهل بيته وقد غابت ملامحه من شدة الأذى.
جهاد أبى بكر الصدّيق:
كان أبو بكر رفيق النبي (صلي الله عليه وسلم) في جهاده كله، فشهد معه بدرًا، وأشار على النبي (صلي الله عليه وسلم) أن يبنى له المسلمون عريشًا يراقب من خلاله المعركة، ويوجه الجنود، وقد استبقى النبي (صلي الله عليه وسلم) أبا بكر معه في هذا العريش، وكان النبي يرفع يديه إلى السماء ويدعو ربه قائلا: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد)، فيقول له أبو بكر: يا رسول الله  بعّض مناشدتك ربك، فإن الله موفيك ما وعدك من نصره، وشهد أبو بكر أُحدًا، وكان ممن ثبتوا مع النبي (صلي الله عليه وسلم) حين انكشف المسلمون، وشهد الخندق، والحديبية، والمشاهد كلها، لم يتخلف عن النبي في موقعة واحدة، ودفع إليه النبي (صلي الله عليه وسلم) رايته العظمى يوم تبوك، وكان أبو بكر ممن ثبتوا يوم حنين حينما هزم المسلمون في بدء المعركة
رواية أبى بكر الصدّيق:
كان أبو بكر أكثر الصحابة ملازمة للنبي (صلى الله عليه وسلم) وأسمعهم لأحاديثه، وقد روى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أحاديث كثيرة، وروى عن أبى بكر كثير من الصحابة منهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب، وعبد الرحمن بن عوف، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وزيد بن ثابت{رضى الله عنهم جميعًا}، ومما رواه على قال حدثني أبو بكر( وصدق أبو بكر) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (ما من عبد يذنب ذنبًا فيتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يصلى ركعتين فيستغفر، الله إلا غفر له).
أعمال أبى بكر الصدّيق ومواقفه:
لأبى بكر الصدّيق (رضى الله عنه) مواقف وأعمال عظيمة في نصرة الإسلام منها:
انفاقه كثيرًا من أمواله في سبيل الله، ولذا قال النبي(صلى الله عليه وسلم): (ما نفعنى مال قط مثلما نفعنى مال أبى بكر)، فبكى أبو بكر وقال : " وهل أنا ومالى إلا لك يا رسول الله " (رواه أحمد والترمذى وابن ماجة). وقد أعتق أبو بكر من ماله الخاص سبعة من العبيد أسلموا، وكانوا يعذبون بسبب إسلامهم منهم : بلال بن رباح، وعامر بن فهيرة.
عندما مرض النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لمن حوله: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، فقالت عائشة: يا رسول الله لو أمرت غيره، فقال: (لا ينبغى لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره)، وقال علي بن أبى طالب: قدم رسول الله  (صلى الله عليه وسلم) أبا بكر، فصلى بالناس، وإني لشاهد غير غائب، وإني لصحيح غير مريض، ولو شاء أن يقدمنى لقدمنى، فرضينا لدنيانا من رضيه الله ورسوله لديننا.
عندما قبض النبي (صلى الله عليه وسلم) فتن الناس حتى أن عمر بن الخطاب قال: إن رسول الله لم يمت ولا يتكلم أحد بهذا إلا ضربته بسيفي هذا، فدخل أبو بكر، وسمع مقالة عمر، فوقف وقال قولته الشهيرة: أيها الناس من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد ماتومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت .
بعد مبايعة أبى بكر بالخلافة، أصر على إنفاذ جيش أسامة، الذي كان النبي(صلى الله عليه وسلم) قد جهزه، وولى عليه أسامة بن زيد، وكان فريق من الصحابة منهم عمر، قد ذهبوا لأبى بكر، وقالوا له: إن العرب قد انتفضت عليك، فلا تفرق المسلمين عنك، فقال: والذى نفسي بيده لو علمت أن السباع تأكلني بهذه القرية لأنفذت هذا البعث الذي أمر  الرسول بإنفاذه، ولا أحلّ لواءًا عقده رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بيده، واتخذ الجيش سبيله إلى الشام تحت إمرة أسامة.
واجه أبو بكر في بدء خلافتة محنة كبرى، تمثلت في ردة كثير من قبائل العرب عن الإسلام بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وسلم)، ومنعت بعض القبائل زكاة أموالها، وأمام هذه الردة، جهز أبو بكر الجيش، وقرر حرب المرتدين جميعًا، واعتزم أن يخرج بنفسه على قيادة الجيش، غير أن علىّ بن أبى طالب لقيه، وقد تجهز للخروج، فقال له: إلى أين يا خليفة   رسول الله ؟ ضم سيفك، ولا تفجعنا بنفسك، فو الله لئن أصبنا بك ما يكون للإسلام بعدك نظام أبدًا، فرجع أبو بكر، وولى خالدًا على الجيش، وسار خالد فقضى على ردة طليحة الأسدىّ ومن معه من بنى أسد وفزارة، ثم توجه إلى اليمامة لحرب مسيلمة بن خسر ومن معه من بنى حنيفة، وكان يوم اليمامة يومًا خالدًا، كتب الله فيه النصر لدينه، وقتل مسيلمة، وتفرق جنوده ومضى المسلمون يخمدون نار الفتنة والردة حتى أطفأها الله، ثم استمر جيش خالد في زحفه حتى حقق نصرًا عظيمًا على الروم في معركة اليرموك.
لما أحس أبو بكر بقرب أجله، شاور بعض كبار الصحابة سرًا في أن يولى عمر بن الخطاب الخلافة من بعده فرحبوا جميعًا، غير أن بعضهم اعترض على غلظة عمر، فقال أبو بكر: " نعم الوالي عمر، أما إنه لا يقوى عليهم غيره، وما هو بخير له أن يلي أمر أمة محمد، إن عمر رأى لينـًا فاشتد، ولو كان واليًا للان لأهل اللين على أهل الريب "، ثم أمر أبو بكر عثمان فكتب كتابًا باستخلاف عمر.
أقوال أبى بكر الصدّيق:
كان أبو بكر إذا مدحه أحد قال: " اللهم أنت أعلم بي من نفسي وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون ".
لما بايعه الناس خليفة   للرسول (صلى الله عليه وسلم)، خطب فيهم، فقال: " أما بعد أيها الناس، فإني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أخطأت فقوموني، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، ألا إن الضعيف فيكم هو القوى عندنا حتى نأخذ له بحقه، والقوى فيكم ضعيف عندنا حتى نأخذ الحق منه طائعًا أو كارهًا، أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم ".
عندما امتنع بعض المسلمين عن أداء الزكاة، قرر أبو بكر قتالهم، فذهب عمر إليه وقال له: " كيف تقاتلهم، وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): (أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فإن قالوا ذلك عصموا منى دماءهم، وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)، فقال أبو بكر: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة من حق الله، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلىرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، لقاتلتهم على منعه، قال عمر: " فلما رأيت أن الله شرح صدر أبى بكر للقتال، عرفت أن الحق معه".
من مواعظ الصدّيق:
إن العبد إذا دخله العجب بشيء من زينة الدنيا مقته الله تعالى حتى يفارق تلك الزينة.
يا معشر المسلمين استيحوا من الله، فو الذي نفسي بيده إني لأظل حين أذهب إلى الغائط في الفضاء متقنعًا حياءً من الله.
أكيس الكيس التقوى، وأحمق الحمق الفجور، وأصدق الصدق الأمانة، وأكذب الكذب الخيانة.
وكان يأخذ بطرف لسانه ويقول: " هذا الذي أوردني الموارد ".
أعلموا عباد الله أن الله قد ارتهن بحقه أنفسكم، وأخذ على ذلك مواثيقكم واشترى منكم القليل الفاني بالكثير الباقي، وهذا كتاب الله فيكم، لا تفنى عجائبه، فصدقوا قوله، وانصحوا كتابته، واستضيئوا منه ليوم الظلمة.
قبل موته دعا عمر بن الخطاب وقال له: " إني مستخلفك على أصحاب   رسول الله .... يا عمر: إن لله حقـًا في الليل لا يقبله في النهار، وحقـًا في النهار لا يقبله في الليل، وإنها لا تقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق وثقله عليه، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق غدًا أن يكون ثقيلاً، وإنما خفت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الباطل، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفـًا، يا عمر إنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة، وآية الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغبًا راهبًا، فلا ترغب رغبة فتتمنى على الله ما ليس لك، ولا ترهب رهبة تلقى فيها ما بيديك، يا عمر إنما ذكر الله أهل النار بأسوأ أعمالهم ورد عليهم ما كان من حسن فإذا ذكرتهم قلت: إني لأرجوا ألا أكون من هؤلاء، وإنما ذكر الله أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه تجاوز لهم ما كان من سيء فإذا ذكرتهم قلت: أي عمل من أعمالهم أعمل؟ فإن حفظت وصيتي فلا يكن غائب أحب إليك من الموت، وهو نازل بك، وإن ضيعت وصيتي فلا يكن غائب أكره إليك من الموت، ولست تعجزه ".
وفاة أبى بكر الصدّيق:
توفي أبو بكر (رضى الله عنه) في شهر جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهِجْرَةُ  قيل : يوم الجمعة لسبع بقين من جمادى الآخرة، وقيل : مساء ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة، وصلى عليه عمر بن الخطاب، وكان أبو بكر قد ولد بعد النبي(صلى الله عليه وسلم) بسنتين وأشهر، ومات بعده بسنتين وأشهر مستوفيًاُ ثلاثة وستين عاما، وهو نفس العمر الذي مات عنه النبي(صلى الله عليه وسلم)، واستمرت خلافة أبى بكر سنتين وثلاثة أشهر وأيامًا. قال عمر في حقه: رحمة الله على أبى بكر، لقد أتعب من بعده تعبًا شديدًا.
أبو بكر الصدّيق:
هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشى التميمي، كنيته: أبو بكر، ولقبه الصدّيق، وكنية أبيه أبو قحافة، وأمه هي: أم الخير سلمى بنت صخر بن كعب بن سعد التميمية بنت عم أبى قحافة، وكان أبو بكر يسمى أيضًا: عتيقًا، وقيل إن سبب هذه التسمية أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال له: (أنت عتيق من النار)، وقيل : إنه سمى كذلك لحسن وجهه وجماله، ولقب بالصدّيق لتصديقه بكل ما جاء به النبي(صلى الله عليه وسلم) وخاصة تصديقه لحديث الإسراء وقد أنكرته قريش كلها، وأبو بكر الصدّيق أفضل الأمة مكانة ومنزلة بعد رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فهو أول من أسلم من الرجال، وهو رفيق الرسول (صلى الله عليه وسلم) في هجرته، وخليفته على المسلمين، يقول حسان بن ثابت في حقه:
إذا تذكرتَ شَجْوًا من أخي ثقــةٍ
فاذكر أخاك أبا بكر بما فعــــلا
خيرَ البريَّةِ أتقاها وأعدَلـــَهـا
بعد النبي وأوفاها بما حمــــلا
الثانيَ التاليَ المحمودَ مشهـــدُهُ
وأول الناسِ منهم صدَّق الرُسُـلا
وقد رثاه على بن أبى طالب يوم موته بكلام طويل منه: " رحمك الله يا أبا بكر كنت إلف رسول الله  (صلى الله عليه وسلم) وأنيسه ومكان راحته، وموضع سره ومشاورته، وكنت أول القوم إسلامًا، وأخلصهم إيمانـًا، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب وأفضلهم سوابق، وأشرفهم منزلة، وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسول الله هديًا وسمتـًا... سماك الله في تنزيله صديقـًا فقال: (والذي جاء بالصدق وصدق به) فالذي جاء بالصدق محمد (صلى الله عليه وسلم) والذي صدق به أبو بكر، واسيته حين بخل الناس، وقمت معه على المكاره حين قعدوا، وصحبته في الشدة أكرم صحبة، وخلفته في دينه أحسن الخلافة، وقمت بالأمر كما لم يقم به خليفة نبي...".
ثبات أبي بكر على فتنة الطاعة والعبادة
أبو بكر والعبادةوقد يظن ظان أن هذا الأمر بسيط، وهين إلى جوار غيره من الفتن التي تعرضنا لذكرها آنفًا، فتن المال، والرئاسة، والأولاد، والإيذاء، وضياع النفس، وترك الديار، وغلبة أهل الباطل، قد يظن ظان أن من ثبت في هذه الأمور الشديدة سيثبت حتمًا في أمر الطاعة، والعبادة، فهي أمور في يد كل مسلم، يستطيع أن يصلي ويصوم ويزكي، بديهيات عند كثير من الناس، لكن هذه لمن أعظم الفتن، قد يسهل على الإنسان أن يفعل شيئًا عظيمًا مرة واحدة أو مرتين أو ثلاث في حياته، لكن أن يداوم على أفعال العبادة كل يوم كل يوم، بلا كلل ولا ملل ولا كسل، فإن هذا يحتاج إلى قلب عظيم، وإيمان كبير، وعقل متيقظ ومنتبه، لا يقوى على ذلك إلا القليل من الرجال، وقد كان الصديق رضي الله عنه سيد هذا القليل بعد الأنبياء، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابَ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَانِ".
فبعض الناس يكون مكثر في الصلاة، فيدخل من باب الصلاة، وهكذا.
قال أبو بكر رضي الله عنه: مـا على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ، وَأَرْجُو اللَّهَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ".
ذلك أن الصديق رضي الله عنه كان مكثرًا، وبصفة مستديمة من كل أعمال الخير، ومر بنا من قبل كيف أنه أصبح صائمًا ومتبعًا لجنازة وعائدًا لمريض ومتصدقًا على مسكين؟ هكذا حياته كلها لا قعود، ولا فتور، كان رضي الله عنه يتحرج جدًا من فوات فضيلة أو نافلة، روى أحمد، وأبو داود، والحاكم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر:
"مَتَى تُوتِرُ؟" قال: أول الليل بعد العتمة. أي: بعد صلاة العشاء، قال: "فَأَنْتَ يَا عُمَرُ؟" قال:آخر الليل. قال: "أَمَا أَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ فَأَخَذْتَ بِالثِّقَةِ". أي: بالحزم، والحيطة مخافة أن يفوت الوتر. "وَأَمَا أَنْتَ يَا عُمَرُ فَأَخَذْتَ بِالْقُوَّةِ". أي: بالعزيمة على الاستيقاظ قبل طلوع الفجر؛ لصلاة قيام الليل، ثم الوتر. فالصديق رضي الله عنه لا يتخيل أن يفوته الوتر، ماذا يحدث لو استيقظ على صلاة الفجر دون أن يصلي الوتر؟
في حقه تكون كارثة، لذلك يأخذ نفسه بالحزم يصليه أول الليل، ثم إذا شاء الله له أن يستيقظ، ويصلي قيام الليل صلى، ولا يعيد الوتر، بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يأخذ بالعزيمة، فهو يعلم علم اليقين أنه سيستيقظ الفجر ليصلي، منهجان مختلفان، ولكنهما من أروع مناهج الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ومع حرصه، وطاعته، ومثابرته، وثباته على أمر الدين كان شديد التواضع، لا ينظر إلى عمله، بل كان دائم الاستقلال له، كان يقول: والله، لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد.
وروى الحاكم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: دخل أبو بكر الصديق حائطًا (حديقة) وإذا بطائر في ظل شجرة، فتنفس أبو بكر الصعداء، ثم قال: طوبى لك يا طير، تأكل من الشجر، وتستظل بالشجر، وتصير إلى غير حساب، يا ليت أبا بكر مثلك.
وكان يقول إذا مُدح: اللهم أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون.
رضي الله عن الصديق، وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.
وفاته رضي الله عنه
والموت فتنة عظيمة، والفراق ألمه شديد، وكم من البشر يسقطون في هذه الفتنة، إلا أن الصديق رضي الله عنه، كان كما عودنا رابط الجأش، مطمئن القلب، ثابت القدم أمام كل العوارض التي مرت به في حياته:
- مر بنا موقفه من وفاة ابنه عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما شهيدًا، وكيف تلقى الأمر بصبر عظيم، وبرضا واسع.
- وماتت أيضًا زوجته الحبيبة القريبة إلى قلبه أم رومان رضي الله عنها، والدة السيدة عائشة رضي الله عنها، وعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه ماتت في السنة السادسة من الهِجْرَةُ في المدينة بعد رحلة طويلة مع الصديق في طريق الإيمان، أسلمت قديمًا وعاصرت كل مواقف الشدة والتعب، والإنفاق، والإجهاد، و الهِجْرَةُ  والنصرة، والجهاد، والنزال، كانت خير المعين لزوجها الصديق رضي الله عنه، ثم ماتت، وفارقت، وفراق الأحبة أليم لكن صبر الصديق رضي الله عنه وأرضاه صبرًا جميلًا وحمد واسترجع.
- ومات كثير من أصحابه وأحبابه ومقربيه، مات حمزة بن عبد المطلب، ومات مصعب بن عمير ومات أسعد بن زرارة ومات سعد بن معاذ، ومات جعفر بن أبي طالب، ومات زيد بن حارثة، وغيرهم كثير رضي الله عنهم أجمعين، ماتوا وسبقوا إلى جنة عرضها السماوات والأرض فانتظر الصديق رضي الله عنه صابرًا غير مبدل: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب] .
- وجاءت فتنة كبيرة، فتنة موته هو شخصيًا رضي الله عنه وأرضاه، ونام على فراش لا بد من النوم عليه، نام على فراش الموت، فماذا فعل وهو في لحظاته الأخيرة؟
ماذا فعل وهو يعلم أنه سيغادر الدنيا وما فيها؟
ماذا فعل وهو سيترك الأهل والأحباب والأصحاب؟
 الصديق رضي الله عنها وأرضاه، ها هو على فراش الموت يوصي عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ثبات وثقة واطمئنان:
اتق الله يا عمر واعلم أن لله عملًا بالنهار لا يقبله بالليل، وعملًا بالليل لا يقبله بالنهار.
يحذره من التسويف، وتأجيل الأعمال الصالحة، ويحفزه على السبق الذي كان سمتًا دائمًا للصديق في حياته.
وأنه لا يقبل نافلة حتى تؤدي فريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة، باتباعهم الحق في دار الدنيا، وثقله عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق غدًا أن يكون ثقيلًا وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة، باتباعهم الباطل في دار الدنيا وخفته عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الباطل غدًا أن يكون خفيفًا، وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئه، فإذا ذكرتهم قلتَ: إني أخاف ألا ألحق بهم.
وإن الله تعالى ذكر أهل النار بأسوأ أعمالهم، ورد عليهم أحسنه، فإذا ذكرتهم قلتَ: إني لأرجو أن لا أكون مع هؤلاء.
ليكون العبد راغبًا راهبًا لا يتمنى على الله، ولا يقنط من رحمة الله، فإن أنت حفظت وصيتي فلا يك غائب أحب إليك من الموت ولست تعجزه.
انظر إلى صدق الوصية، وحرص الصديق أن يصل إلى بكل المعاني التي كانت في قلبه إلى عمر بن الخطاب الخليفة الذي سيتبعه في خلافة هذه الأمة
ثم انظر إلى هذا الموقف العجيب، وهو ما يزال على فراش الموت، استقبل المثنى بن حارثة رضي الله عنه قائد جيوش المسلمين آنذاك في العراق، وكان قد جاءه يطلب المدد لحرب الفرس، فإذا بالصديق الثابت رضي الله عنه لا تلهيه مصيبة موته، ولا تصده آلام المرض، وإذا بعقله ما زال واعيًا متنبهًا، وإذا بقلبه ما زال مؤمنًا نقيًا، وإذا بعزيمته، وبأسه وشجاعته كأحسن ما تكون، أسرع يطلب عمر بن الخطاب الخليفة الجديد، يأمره وينصحه ويعلمه، قال:
اسمع يا عمر ما أقول لك، ثم اعمل به، إني لأرجو أن أموت من يومي هذا، فإن أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تشغلنكم مصيبة، وإن عظمت عن أمر دينكم، ووصية ربكم، وقد رأيتني مُتَوَفّى  رسول الله وما صنعت، ولم يُصَب الخلق بمثله، وإن فتح الله على أمراء الشام، فاردد أصحاب خالد إلى العراق (سيدنا خالد بن الوليد كان قد انتقل بجيشه من العراق إلى الشام)، فإنهم أهله وولاة أمره وحده، وهم أهل الضراوة بهم والجراءة عليهم.
أرأيت عبد الله كيف يكون الصديق رضي الله عنه وهو في هذه اللحظات الأخيرة؟
لم ينس الجهاد، ولم يشغل عن استنفار المسلمين، أرأيت كيف أنه وحتى اللحظة الأخيرة في حياته ما زال يعلم ويربي ويوجه وينصح؟
هذا هو الصديق الذي عرفناه.
ودخلت عليه ابنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو في آخر اللحظات، ونفسه تحشرج في صدره، فآلمها ذلك، فتمثلت هذا البيت من الشعر:
لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
أي لا يغني المال عن الإنسان إذا جاء لحظة الوفاة، فخشي الصديق رضي الله عنه أن تكون قالت ما قالت ضجرًا، أو اعتراضًا، فتقول عائشة رضي الله عنها، فنظر إلى كالغضبان، ثم قال في لطف:
ليس كذلك يا أم المؤمنين، ولكن قول الله أصدق: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} { ق }
هكذا ما زال يربي ويعلم، ثم جاءوا لهم بأثواب جديدة كي يكفن فيها فردها، وأمر أن يكفن في أثواب قديمة له بعد أن تعطر بالزعفران، وقال:
إن الحي أحوج إلى الجديد ليصون به نفسه إنما يصير الميت إلى الصديد وإلى البلى.
هكذا بهذا الثبات العظيم، وأوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس رضي الله عنها، وأن يدفن بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخر ما تكلم به الصديق في هذه الدنيا قول الله تعالى: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}  { يوسف }.
غير أنه مع كل ما سبق من فتن عرضت للصديق في حياته إلى لحظة موته، فإن كل هذه الفتن تهون، وتضعف، وتتضاءل أمام الفتنة العظمى، والبلية الكبرى، والمصيبة القصوى التي لحقت به وبالمسلمين، لما مات ثمرة فؤاد الصديق، وخير البشر، وسيد الأنبياء والمرسلين، وحبيب الله، لما مات النور المبين الذي أضاء الأرض بنبوته، وعلمه، وخلقه، ورحمته، لما مات رسول الله  محمد صلى الله عليه وسلم.
أعظم فتنة مرت بالصديق رضي الله عنه، وأعظم فتنة مرت بالصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وكان من فضل الله على الصديق رضي الله عنه أنه مَنّ عليه بثبات يوازي المصيبة، وبوضوح رؤية يقابل الفتنة، وبنفاذ بصيرة يكشف البلوى، وينير الطريق للصديق ولمن معه من المسلمين.
وفي موضوع ثبات الصديق رضي الله عنه يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن الصديق رضي الله عنه جملة قصيرة لكن عظيمة المعاني قال: كان الصديق رضي الله عنه كالجبل، لا تحركه القواصف، ولا تُزيله العواصف.
ثبات أبي بكر الصديق أمام فتنة الرئاسة والمنصب
فتنة الرئاسة فتنة عظيمة، وابتلاء كبير، وكثير من الناس يعيش حياة التواضع، فإذا صعد على منبر الحكم تغير، وتبدل، وتكبر، فتنة عظيمة، وانظر إلى الحسن البصري يقول في كلمة عظيمة له: وآخر ما يُنزع من قلوب الصالحين، حب الرئاسة.
أما الصديق رضي الله عنه، فإنه قد نزع منه حب الرئاسة منذ البداية، كان يعيش قدرًا معينًا من التواضع قبل الخلافة، وهذا القدر تضاعف أضعافًا مضاعفة بعد الخلافة، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا:
إن أعظم خلفاء الأرض تواضعًا بعد الأنبياء كان الصديق رضي الله عنه. والله لقد فعل أشياء يحار العقل كيف لبشر أن يتواضع إلى هذه الدرجة؟ ولولا اليقين في بشريته لكانت شبيهة بأفعال الملائكة، هو قد سمع من حديث حبيبه صلى الله عليه وسلم الحديث الذي رواه مسلم عن أبي يعلى معقل بن يسار رضي الله عنه: "مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ لَا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ لَهُمْ إِلَّا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ".
والصديق جهد للمسلمين ونصح للمسلمين كأفضل ما يكون الجهد والنصح، ولذا فهو ليس فقط يدخل الجنة معهم، بل يسبقهم إليها، كيف يتكبر الصديق، وهو الذي كان حريصًا طيلة حياته على نفي كل مظاهر الكبر، والخيلاء من شخصيته، وكان يتحرى ذلك حتى في ظاهره، يروي البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
وقعت الكلمات في قلب أبي بكر وتحركت النفس المتواضعة تطمئن على تواضعها، أسرع الصديق رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إن إزاري يسترخي إلا أن تعاهده.
أشعر أنه قالها، وهو يرتجف، ويخشى من حكم رسول الله  صلى الله عليه وسلم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثلج صدره وطمأنه، ووضح له متى يكون استرخاء الإزار منهيًا عنه، قال: "إِنَّكَ لَسْتَ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ خُيَلَاءَ".
شهادة من سيد الخلق، وممن لا ينطق عن الهوى، إن الصديق لا يفعل ذلك خيلاء، وكان من الممكن أن يقول له إنك لست متعمدًا للإسبال، لكنه يخرج من كل هذا إلى الحقيقة المجردة، تواضع الصديق رضي الله عنه.
وسبحان الله، وكأن الله أراد أن يشبه أبا بكر بإبراهيم عليه الصلاة والسلام أكثر وأكثر، فقد ضربرسول الله  صلى الله عليه وسلم إبراهيم مثلًا للصديق بعد تخيير الحكم في أسارى بدر، أراد الله أن يشبه أبا بكر بالخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، الذي ابتلي البلاء المبين بذبح ابنه، فيبتلي الصديق كذلك بالبحث عن ابنه ليذبحه بيده، أيّ مثل رائع ضربه الصديق لهذه الأمة؟!
كيف تغلّب على هذا المعوق الخطير الذي كثيرًا ما خلف أناسًا عن السير في طريق الدعوة، وعن السير في طريق الجهاد؟ {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح].
لكن هذا لم يأت من فراغ بل هو نتيجة لاتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسبق إلى الخيرات، 

0 التعليقات:

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More