..

بيير أوجست رينوار ( الأعوام الأخيرة )

r                                                                                                                        تضع على صدري حجرا ثقيلا. أريد أن اذهب لأتنزّه في الريف لبعض الوقت”. كان هذا آخر ما طلبه الرسّام بيير أوغست رينوار من ابنه جان قبيل وفاته.
وعندما توفّي الفنّان في الثالث من ديسمبر عام 1919 نتيجة إصابته بالتهاب رئوي كانت آخر كلمات قالها وهو يحدّق في لوحة صغيرة تصوّر باقة من شقائق النعمان كان قد انتهى للتوّ من رسمها: الآن بدأت افهم شيئا
قبر بيير أوجست رينوار يُميّزه شاهد بسيط من الرخام في مقبرة ايسوا. في هذا المكان، يرقد الرسّام وإلى جواره كلّ من زوجته ألين وأبنائه الثلاثة. القبور بسيطة كبساطة الحياة التي عاشها رينوار وكرّسها كليّا لفنّه ولتصوير السعادة.
وما يزال بالإمكان زيارة ورشته المتواضعة في الجزء الخلفيّ من حديقة منزل العائلة الذي تشغله الآن صوفي بيير أوجست رينوار إحدى حفيداته. المحترف فارغ إلا من كرسيّ وحامل لوحة كان رينوار يستخدمهما عندما أصبح معاقا. ويتفرّع عن الورشة عدّة مسارات كان الفنّان يسلكها، إمّا مشيا على الأقدام أو بالدرّاجة الهوائية، عندما يبحث عن موضوعات ليرسمها.
r1مناظر رينوار لا تخلو من صور لأطفال وأزهار ونساء يتحمّمن في غابات مضيئة أو أنهار من الفضّة. موهبته المبكّرة أهّلته لحياة مهنية طويلة كانت تتخلّلها فترات مرض إذ كان يعاني من الروماتيزم الذي منعه من تحقيق ما كان يصبو إليه في نهايات حياته.
تصويره اللذيذ والغنّي بالألوان للرقصات والنزهات والأطفال المبتسمين والوجوه الكاملة والأجساد الممتلئة للنساء كانت تعكس قيم وأفكار الانطباعية في أزهى صورها.
r2”                                                                                                وصلت إلى طريق مسدود”. هكذا اعترف  بيير أوجست رينوار في عام 1880. “لقد توصّلت أخيرا إلى قناعة بأنني لم اعد استطيع الرسم”.
الأعوام العشرة الأخيرة من حياة رينوار لم تكن بلا متاعب. وعلى مدى تلك الفترة، حاول إيجاد اتجاه جديد لفنّه، ووجده أخيرا في المتاحف. تحوّل تدريجيا عن الرسم في الهواء الطلق والملاحظة المباشرة للواقع إلى رسم الموضوعات التقليدية والزخرفية. وعلى خطى ديلاكروا، سافر رينوار إلى الجزائر، ثمّ إلى إيطاليا حيث اكتشف جداريّات رافاييل وعمل على صورة للمؤلّف الموسيقي ريتشارد فاغنر.
ومن خلال مراقبته الدقيقة لأعمال الرسّامين العظام الأوائل نجح أخيرا في التغلّب على شكوكه. وابتداءً من عام 1890 فصاعدا، تمتّع الرسّام مرّة أخرى بقدر كبير من الاعتراف على الساحة الدولية. وإلى جانب صديقيه مونيه وسيزان، أصبح رينوار  مصدرا لإلهام الرسّامين الشباب مثل بيكاسو وبونار وماتيس وموريس دونيه وغيرهم.
r3وقد وجد في الأساطير اليونانية والمناظر الطبيعية لمقاطعة بروفانس وفي أعمال كبار الرسّامين من القرون السابقة بما في ذلك تيشيان وروبنز وبوشيه مصدر إلهام لرسم الأنثى العارية ومشاهد السعادة المنزلية.
وعلى الرغم من أن شهرة رينوار ارتبطت أكثر بفترته الانطباعية، إلا أن هذه الفترة من النضج الفنّي اتسمت هي أيضا بالحرّية الكبيرة في استخدام اللون والموضوع والأسلوب وأنتجت أعمالا ناضجة وجديرة باكتشافها ثانية. صديقه الشاعر غيوم أبولينير كتب قائلا: رينوار ينمو باستمرار. لوحاته الأخيرة هي الأكثر جمالا، بل والأكثر ابتكارا”.
لوحته المستحمّات والتي أنجزها عام 1919، أي نفس العام الذي توفّي فيه، اعتبرها تتويجا حقيقيّا لانجازاته. في مقدّمة اللوحة تظهر امرأتان مستلقيتان في الهواء الطلق، بينما تعرضان مفاتنهما على الناظر. الألوان الدافئة تتداخل مع بقع الضوء. وفي الخلفية تظهر ثلاث نساء أخريات وهنّ يمرحن عاريات في الماء. الأشكال الكاملة لأجسادهنّ الضخمة، والطريقة التي يذُبْنَ فيها بانسجام في المنظر الطبيعي يشهدان على براعة رينوار التصويرية. احد النقّاد وصف اللوحة بقوله: انظر إلى الضوء على أشجار الزيتون، انه يبرق مثل الماس. الأزرق والورديّ وانبثاق السماء، الجبال التي هناك والتي تتغيّر مع الغيوم، إنها تشبه إحدى خلفيّات انطوان فاتو”.
r4                                    كان بيير أوجست رينوار  محاطا بالنساء حتى نهاية حياته. وكان يجد الإشباع المادّي والروحي على حدّ سواء عندما يكون في صحبتهن.
في سنّ الشيخوخة، عندما بدأت الآم التهاب المفاصل تُثقِل عليه اقترح عليه بعضهم أن يتّخذ خدما من الرجال. لكنه رفض بعناد قائلا: لا أستطيع أن أتسامح مع أيّ شخص باستثناء النساء”. كان في منزل رينوار جيش غير تقليديّ من الفتيات الشابّات العاملات اللاتي لازمنه طوال أكثر من ثلاثين عاما.
هذا العدد الكبير من النساء الجميلات من مربّيات وممرّضات وطبّاخات واللاتي وُظفنّ في الأساس لأداء أعمال منزلية، جلسن أو وقفن أمامه كي يرسمهنّ، وبعضهنّ عاريات أحيانا. وكنّ يفعلن هذا عن طيب خاطر وبشكل طبيعي. وعندما تحدّق في صورهنّ، لن ترى أثرا لأيّة أحقاد أو أفكار مزعجة تعكّر صفو وجوههن. كان رينوار يرسمهنّ وكأنهنّ فاكهة أو أزهار من جنّات عدن.
r5
وموديلات رينوار لا يفكّرن. إذ يبدو انه كان مهتمّا أكثر بمادّية الجسد أكثر من الأفكار الميتافيزيقية. وعلى الرغم من انه اعترف بحبّه المتهوّر لشكل الأنثى وكان يفضّله مشعّا وفي كمال نضجه، إلا أن رينوار لم يكن بأيّ حال زير نساء. قال مرّة: اشعر بالأسف على الرجال الذين لا يكفّون عن ملاحقة النساء. هناك رسّامون لا يكملون لوحة واحدة أبدا، لأنهم ينشغلون بمحاولة إغواء موديلاتهنّ بدل رسمهنّ”.
لكن هذا لم يكن حال رينوار. لم يكن أبدا شخصا فاجرا أو إباحيّا، وكان يتعامل مع موديلاته بالكثير من الاحترام ويشجّعهنّ على أن يقفن بحرّية دون أن يصرّ على أن يبقين جامدات أو ساكنات.
كان رينوار في الأربعين من عمره عندما أصبح مهجوسا برسم العارية. لوحة فرانسوا بوشيه بعنوان دايانا تخرج من حمّامها كانت اللوحة العارية الأولى التي بهرته واستمرّ يحبّها ويتذكّرها طيلة حياته، تماما كما يتذكّر الإنسان حبّه الأوّل.
كان بوشيه واحدا من أفضل الرسّامين الذين فهموا جسد المرأة. وقد اعتاد على أن يملأ لوحاته بصور لشابّات جميلات ويخصّص الخلفية لمنظر طبيعي مختصر. كان يقول: على المرء أن يشكّ في أن جسد امرأة لا يحتوي على عظام”.
rr.jpg                                                                                                      كل الخادمات في منزل رينوار كنّ يجسّدن مجموعة من السمات الجمالية الواضحة والمحدّدة المعالم: أكتاف منحسرة برقّة، أجساد ثقيلة، نهود صغيرة وصلبة، رؤوس صغيرة ومستديرة، عيون مضيئة وشفاه ممتلئة. ووراء هذه الوجوه المجهولة، غالبا ما يختفي وجه موديل مفضّلة هي غابرييل رونار ابنة عمّ السيّدة ألين رينوار زوجة الرسّام.
نشأت غابرييل أيضا في إيسوا وبدأت خدمتها عند أسرة رينوار عام 1894 عندما كانت في الرابعة عشرة وظلّت مع العائلة حتى عام 1914. كانت مكلّفة بالاهتمام بابن رينوار الأوسط جان، وظهرت في ما بعد في العديد من اللوحات التي رسمها لأطفاله.
ابن الرسّام البكر، بيير، ولد عام 1885 من مصفّفة الشعر الشابّة ألين شاريغو. وقد تزوّجها رينوار بعد ذلك بخمس سنوات، أي في عام 1890، وأنجبا طفلين آخرين هما جان وكلود. زوجته وأطفاله الثلاثة أسهموا جميعا في سعادته وكانوا مصدر إلهام له.
وعلى الرغم من حبّ الفنان لأفراد أسرته، إلا أن أحدا منهم لم يكن مسئولا عن الاهتمام به. كان هذا الدور محفوظا لـ غابرييل. كانت الفتاة الشابّة تلعب بهدوء دور المربّية والموديل. وكان يرسمها إمّا بملابس أو عارية تماما. كما ألهمته رسم مجموعة من لوحات المحظيات المستلقيات.
rrr                                                                                                       كان رينوار يستمتع بجعل غابرييل تبدو جميلة، وذلك بتزيينها بالقلادات وبما خفّ وشفّ من الثياب، كما في لوحته غابرييل مع حُليّ (1910) أو بوضع وردة في شعرها كما في لوحة غابرييل مع زهرة (1911).
وبالنسبة له، كانت هذه السمات والإضافات ترمز لحميمية ودفء شخصية الأنثى. كانت غابرييل مسئولة عن السهر على راحة الرسّام العجوز. وكانت تجهّز له عدّة الرسم قبل أن تضع الفرشاة بين يديه الملفوفتين بالضماد. وابتداءً من عام 1900 فصاعدا، أي عندما استنزف التهاب المفاصل قواه، أصبح رينوار يفضّل البقاء أكثر فأكثر في جنوب فرنسا لأن الشمس القويّة كانت تساعد حالته الصحّية.
في تلك الفترة، أصبح يركّز على رؤية عالم مثاليّ قوامه جذور ثقافة البحر المتوسّط. كان يرى في الإغريق جنسا يستحقّ الإعجاب. حياتهم كانت سعيدة جدّا لدرجة أنهم كانوا يتخيّلون أن الآلهة تأتي إلى الأرض باحثةً عن الجنّة والحبّ. “نعم، كانت الأرض جنّة الآلهة. وهذا ما أريد أن ارسمه”.
r8                                                                                                                              رينوار المهوس بفنّه إلى ما لا نهاية كان يسعى إلى تجاوز الواقع. وعلى الرغم من إعاقته، إلا انه احتفظ بالسيطرة الكاملة على فنّه وأراد أن يقدّم عالما ينبض بالحياة. وكلّما أصبحت موديلاته اكبر سنّا، كلّما أصبح هو اضعف.
كان يُنتقد على رفضه الأعراف الأكاديمية وعلى إدارته ظهره للبؤس الاجتماعي الذي كان سائدا في نهاية القرن التاسع عشر. أعماله في سنوات عمره المتأخّرة، أي المناظر الطبيعية للبحر المتوسط أو المستحمّات، تميّزت بتفاؤلها وببهرجتها اللونية. ويمكن اعتبارها تكريما لابتهاج الفرنسيين وحبّهم للحياة.
r9
لم يكن رينوار رسّاما شعبويا دائما. صحيح انه كان رائدا للانطباعية، غير أن تجربته الحداثية لم تكن تُقابل دائما باستجابة دافئة. وفي القرن العشرين، أصبح مؤرّخو ونقّاد الفنّ منحازين للفنّ الحديث الذي أدّى إلى ظهور الرسم التجريدي. وقد اعتبر العديد من هؤلاء لوحات رينوار التي رسمها في أواخر حياته، وبالأخص نساءه العاريات، موضة قديمة ولا تمتّ للفنّ الحديث بصلة.
والعديد من هذه اللوحات التي أنجزها في أعوامه الأخيرة تمّ إنزالها إلى غرف التخزين في المتاحف التي كانت تعرضها. في عام 1989، طرح متحف الفنّ الحديث في نيويورك لوحته عارية مستلقية للبيع. وقال أمين المتحف وهو يشير ضمنا إلى أيّ مدى انخفضت شهرة رينوار: هناك أناس كثيرون يرغبون في هذه اللوحة. لكنّها ببساطة لا تنتمي إلى قصّة الفنّ الحديث التي نحاول أن نرويها للناس”.
الرسّامة الأمريكية ميري كاسات قالت ذات مرّة عن رينوار انه يرسم صورا لنساء حمراوات ضخمات وبرؤوس صغيرة جدّا. وهذا أكثر الأشياء فظاعة التي يمكن تخيّلها”.
لكن في وقت لاحق رأى هنري ماتيس الصور نفسها وقال واصفا إيّاها: هذه هي أجمل الصور التي رُسمت لعاريات”. وأضاف: ليس هناك قصّة أكثر نبلا ولا انجازات أكثر روعة من تلك التي لرينوار”.
r10
وهناك من النقّاد من يعتبر أن الوقت قد حان لإعادة النظر في تلك الأعمال ومحاولة فهمها وفقا لشروطها وليس بحسب تصنيفات وإملاءات النقّاد الحداثيين.
احد أولئك النقّاد اقترح ذات مرّة على من لا تعجبه لوحات رينوار التي رسمها في أخريات حياته حلا بسيطا: حاول أن تنظر إلى اللوحات بعيون ماتيس الذي كان صديقا حميما لرينوار. لكي ترى رينوار من خلال عيني ماتيس يعني أن تحبّ رينوار العجوز.
أوّلا: تعلّم أن تحبّ أشكاله الناعمة وخطوطه الرفيعة وسيتبيّن لك أن عالم رينوار هو عالم من القطن.
ثانيا: لكي تحبّ ألوان رينوار يجب أن تقبل الأحمر والورديّ باعتبارهما اللونين الرئيسيين في العالم، والأخضر والأزرق الشاحب كلونين أصليين وأوليّين.
ثالثا: لكي تفهم مناظر رينوار الطبيعية يجب أن تدرك انه عاش حياته محاصرا بسبب المرض. في مناظره الطبيعية، أنت إمّا في الداخل، أي في مسرح من الستائر والأزياء والكراسي المنجّدة أو في الخارج أي في عالم من مسارات الحصى والجدران الحجرية القديمة وأكداس أوراق الشجر.
رابعا: لكي تحبّ نساء رينوار عليك أن تنسى الجسد كما تعرفه من وسائل الإعلام اليوم وتستشعر جسدا يعتمد على الإحساس والقرب والعلاقة الحميمة.
r11
في أواخر حياته، أراد رينوار إحياء التقاليد الفنّية والحساسيّة العاطفية للعصر الذهبيّ للثقافة الفرنسية في أواخر القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر كما تجسّده أعمال انطوان فاتو وفرانسوا بوشيه. وقد حاول إعادة التأكيد على دور الكلاسيكية الأوروبّية في التعبير الشخصي عن الجمال. وبعد أن تصالح رينوار مع مسألة موته الوشيك، استدعى الموضوعات الكلاسيكية في الرسم والتي تؤكّد على الشباب والمسائل الحسّية وعلى خصوبة الطبيعة وتقديس الحياة العائلية.
وابتداءً من عام 1890 وحتى وفاته، كان رينوار يرسم بتفانٍ لا يعرف الكلل أو الملل. وفي واحدة من أشهر ملاحظاته، أعلن في عام 1913 قائلا: لقد بدأت اعرف أخيرا كيف ارسم. استغرق الأمر منّي عمل أكثر من خمسين عاما كي أصل إلى هنا ومع ذلك لم أنتهِ بعد”.
r12 احتضن رينوار المسنّ الحياة بتفانٍ ومثابرة. وفي عام 1898، بدأ يعاني من التهاب المفاصل الروماتويدي ثم لم يلبث أن تعرّض لجلطة دماغية اضطرّته في النهاية إلى استخدام كرسيّ متحرّك. وقد اتبع أوامر طبيبه واستقرّ في جنوب فرنسا. في عام 1907، اشترى مزرعة مساحتها مائة فدّان في الكوت دازور. وهناك خلق لنفسه ولزوجته ولأبنائه الثلاثة ولعدد من المربّيات والخادمات عالما مثاليّا.
وبعد ذلك بعام، زار إيطاليا، حيث أعجب بتقاليد الرسم والتصميم التي تكرّست في الفنّ الإيطالي منذ عصر النهضة. وقد ترك رينوار وراءه تجاربه مع الضوء وغيره من عناصر تحوّل الطبيعة التي ميّزت الكثير من أعماله خلال سنوات الانطباعية وسعى لطلب التوجيه والإلهام من الماضي. ومن الآن فصاعدا، سيركّز على مواضيع الفنّ الكلاسيكي وعلى الرسم بضربات فرشاة سائلة.
احد الأمثلة التي تكشف عن رينوار الكلاسيكي هي لوحته بعنوان امرأة تعزف الغيتار . في مشهد يستحقّ أن يرسمه فاتو، يصوّر رينوار امرأة شابّة مستغرقة في عزف الغيتار. المكان ليس احد عوالم فاتو الأسطورية، بل صالونا معاصرا وضع رينوار عازفته فيه. الصالون لا يميّزه شيء باستثناء وجود المرأة والغيتار المرسوم بمهارة. رينوار يصوّر مشهدا من الانسجام والنشوة الإبداعية في مكان يمكن أن يكون في الشقّة المقابلة بمنزل في نهاية الشارع. وقد وظّف الفنّان في المشهد لمسة شاعرية وفرشاة معلّم قديم.
r13في لوحة غابرييل وجان، يوازن رينوار بين سلسلة من العناصر بطريقة بارعة. شعر غابرييل الفاحم يتباين مع الشعر الأشقر المجعّد للصغير. إذا كانت غابرييل مسليّة لابنه الصغير، فإن علاقتها مع رينوار تثير بعض القضايا المحيّرة.
منزل رينوار كان سعيدا وشاعريّا تقريبا، في كثير من النواحي. ولكنه كان يتسم بالثبات. جان رينوار ابن الرسّام كتب في مذكّراته أن والده الذي كان يحبّه كثيرا كان يصرّ على أن لا يقصّ شعره إلى أن يذهب إلى المدرسة، ما جعل ابنه نموذجا مثاليا للوحات التي تصوّر فتيات صغيرات يلعبن ويلهين ويمارسن الخياطة.
كلّ أبناء رينوار الثلاثة كان عليهم أن يتحمّلوا كونهم نماذج لوالدهم الذي كان يحاول بعناد إطالة فترة طفولتهم بينما كان هو يتشبّث بالحياة وسط معاناته الشديدة مع المرض. وقد احتفظ بنفوذه العاطفي على غابرييل أيضا، وكانت تلك الخطوة لا تخلو من انعكاسات مزعجة.
في اثنتين من صور غابرييل، يرسمها رينوار عارية من الجذع ومن الكتفين. وكلا اللوحتين تتوافقان مع التقاليد الكلاسيكية عن العارية في الفنّ الأوروبّي. يمكن للمرء أن يطلق بعض التكهّنات السيكولوجية حول علاقة رينوار مع زوجته ألين التي كانت موديله في عام 1880، ولا سيّما في لوحته العظيمة غداء في رحلة بالقارب (1881)، وكذلك حول علاقته مع غابرييل. ولكن ليس هناك أيّة علامة عن أي توتّر في الوضع الداخلي لمنزل رينوار قد يكون ناجما عن اختياره لموديله الجديدة أو طريقته في رسمها.
r14
غير أن ما يبعث على القلق بشأن صور غابرييل هو أنها تبدو وكأن فردانيّتها قد استُنزفت على نحو متزايد. هناك تغيير ضئيل في وجهها وعلامات بسيطة عن آثار العمر أو النموّ الداخلي بعد عام 1894. حيوية وسمات الشخصية الفريدة كما تتضح في صورتها مع جان منعدمة في بورتريهاتها العارية وفي اللوحات الأخرى التي رسمها لها رينوار في وقت لاحق. وفي الواقع، فإن العنوان الذي اختاره للوحته الحسناء الصقلّية ، والتي تظهر فيها غابرييل أيضا، يوحي بأن رينوار كان يرسم امرأة قديمة من البحر المتوسّط وليس فردا من أفراد أسرته أو شخصا له عقل وروح وشخصيّة خاصّة.
لم يكن رينوار بالتأكيد لِيَدَع الأفكار العميقة في النفس البشرية تؤثّر على عمله. في عام 1908، شاطر بعض تأمّلاته في الفنّ مع رسّام أميركي. وهذه التأمّلات تستحقّ أن تُدرس وتُمحّص نظرا للرؤية الكاشفة التي تتضمّنها.
يقول رينوار: أرتّب موضوعي كما أريد، ثم اذهب وأرسمه مثل طفل. أريد أن يكون الأحمر رنّانا ليبدو وكأنّه جرس. وإذا لم يتحوّل بهذه الطريقة، أقوم بإضافة المزيد من الألوان الحمراء أو أيّة ألوان أخرى إلى أن أتمكّن من الحصول عليه. ليس لديّ قواعد وأساليب خاصّة. وأيّ شخص ينظر إلى موادّي أو يشاهد كيف ارسم سيرى أنني لا احتفظ بأيّة أسرار. أنظر إلى امرأة عارية، ويكون هناك عدد كبير من الصبغات الصغيرة. لكن لا بدّ لي من العثور على اللون الذي يجعل الجسد يحيا ويرتعش على قماش الرسم”.
هذه المشاعر هي تعبير واضح عن حرص رينوار على حرفته. ومن الصعب رفض هذه الملاحظات ما دام أن الفنّان يتعامل مع موضوعه بإنصاف. لكن عندما يُجرّد الشخص المرسوم من أيّة شرارة فردية، عندها يصبح العمل الفنّي هامدا ومستنزفا وخاليا من أيّ معنى. وبعض النقّاد خلصوا إلى استنتاج مفاده أن موقف رينوار الأبوي تجاه النساء منعه من التعامل معهنّ بوصفهنّ أفرادا من لحم ودم.
r15
من بين أعمال رينوار التي لا يعرفها الكثيرون وليست مشهورة تلك البورتريهات التي رسمها لعدّة نساء بارزات في المشهد الثقافي في بدايات القرن الماضي. ومن بين هؤلاء عازفة البيانو المشهورة ميسيا سيرت، والشاعرة أليس فاليري ميرزباك التي رسمها عام 1913. البورتريه الأخير يصوّر امرأة ذكيّة ومنعّمة مع لمسة من غرور الانتيليجنسيا الفرنسية. في البداية لم يكن رينوار مهتمّا برسم ميرزباك لأنه لم يكن يعرفها كما لم يكن بحاجة إلى المال. لكن فاليري عادت إليه بعد أن ارتدت فستانا جميلا من الساتان الأبيض. وعندما رآها رينوار في الفستان قرّر أن يرسمها. ومن الواضح انه كان مستغرقا في رسم جمال اللباس بينما اكتفى برسم وجه المرأة وملامحها على عجل. ميرزباك ليست بالضبط من تلك النوعية من الأشخاص الذين كان رينوار يبحث عنهم ليرسمهم، ومع ذلك فإنه أعطاها تقريبا المعاملة الفنّية التي تستحقّها.
لوحات رينوار لأمّه ولزوجته ألين ولبعض العاريات وكذلك للمناظر الطبيعية، توفّر جميعها نظرات قريبة من حياة الفنان الداخلية. وعلى الرغم من أنها ليست من بين أفضل أعماله، إلا أن هذه الرسومات تصوّر عالما عاطفيا مملوءا بسكّان أو أشخاص يتمتّعون بجاذبية عظيمة بالنسبة لرجل جاهد وناضل كثيرا لتحقيق النجاح.
r16أحلام رينوار قد تبدو مروّضة إلى حدّ كبير. بول غوغان واماديو موديلياني، اللذان لا يمكن وصف موقفيهما من المرأة بأنه متحرّر، خلقا هما أيضا عوالم شخصيّة من الجمال الحسّي. لكن الطبيعة “الأركادية” التي تقف فيها عاريات رينوار وتأمّلاتهن الحالمة تخلقان حالة مصطنعة من البراءة المنوّمة.
احد النقّاد كتب يقول: من خلال التعتيم على العلاقة الحقيقية بين الناس والطبقات والجنسين، أعطى رينوار شكلا فانتازيا لفترة نهاية القرن ما يزال رائجا إلى اليوم. كما أن هروب رينوار من الواقع أنتج رؤيا مثالية وأسطورية عن النساء صالحة لكل زمان ومكان”.
كان رينوار يستمتع بالموسيقى وكان لديه صوت جميل عندما كان شابّا. وقد اجتذب غناؤه انتباه مدير جوقة الكنيسة شارل غونو ، الذي أصبح فيما بعد موسيقيا مشهورا بعد أن ألّف لحن أوبرا فاوست. وعندما أصبح الرسّام عجوزا ومقيّدا بكرسيّ متحرّك، اُخذ لرؤية الباليه الروسيّ الذي كان عنصرا مثيرا في باريس آنذاك. وقد سُرّ بتلك التجربة كثيرا.
r17                                                                                               الطبيعة السعيدة لأعمال رينوار المتأخّرة لا تُظهر العذاب الذي كان يعانيه بسبب التهاب المفاصل الذي تسبّب في شلّ يديه تماما في النهاية. في عام 1915، فقد الفنّان زوجته. وبعد ذلك بأربع سنوات، أي في ديسمبر عام 1919، توفّي هو. وخلال زيارته الأخيرة إلى باريس قبيل وفاته، دُعي إلى اللوفر كزائر منفرد، واُخذ من غرفة لأخرى وهو في كرسيّه. وقد شعر بالسرور عندما رأى لوحته الكبيرة مدام شاربونتييه وطفلاها معروضة هناك. وأحسّ بالرضا وهو يرى فنّه يُكرّم في حياته.
كان رينوار قد التقى جورج شاربونتييه في عام 1875، عندما اشترى الأخير واحدة من لوحاته. كان شاربونتييه يعمل في مجال النشر وكانت زوجته سيّدة مجتمع بارزة ولها صالون يزوره الكثير من مشاهير ذلك العصر مثل فيكتور هوغو وفلوبير وكليمنصو ومانيه وديغا وغيرهم.
اختيار مدام شاربونتييه رينوار كي يرسم لها هذه اللوحة الضخمة كان بمثابة نجاح له. وقد تلقّى إشادة كبيرة عندما انتهى من رسمها وكُلّف برسم بورتريه آخر مشابه.
كان رينوار احد أكثر الرسّامين إنتاجا، وخاصّة في العقدين الأخيرين من حياته. كما كان حتّى وفاته نجما عالميّا وربّ عائلة شغوفا بزوجته وأبنائه ورسّاما طليعيّا في حالة انسحاب من العالم الحديث. وربّما يكون هو الرسّام الفرنسيّ الأكثر شعبية بسبب موضوعاته. لوحاته الدافئة والحسّية تعطي انطباعا عن إنسان متفائل كان على علاقة طيّبة مع العالم، وهو عالم لم يكن يرى فيه سوى كلّ شيء خيّر وجميل.

العادات و التقاليد


                                 ما ينتقل من عادات وتقاليد وعلوم وآداب وفنون ونحوها من جيل إلى جيل         نقول : ” التراث الإنساني ” التراث الأدبي ، التراث الشعبي ” ، وهو يشمل كل الفنون والمأثورات الشعبية من شعر وغناء وموسيقى ومعتقدات شّعبية وقصص وحكايات وأمثال تجري على ألسنة العامة من الناس  وعادات الزواج والمناسبات المختلفة وما تتضمنه من طرق موروثة في الأداء والأشكال ومن ألوان الرقص والألعاب والمهارات .وكلمة تراث من الفعل وَرَثَ يَرِثُ مِيرَاثَاً  أي انتقل إليه ما كان لأبويه من قبله فصار ميراثاً له ، وفي الآية الكريمة من سورة النمل “: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ..” وفي آية أخرى من سورة الأحزاب :” وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا ..” وقال الله تعالى إخباراً عن زكريا ودعائه إياه : هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب أي يبقى بعدي فيصير له ميراثي .وتُرَاث أصلها وُرَاث فقلبت الواو تاءً كما في قولنا تَقوى وتُقاة من وقى ، وكثيراً ما تبدل التاء من الواو في نحو تراث وتجاه وتخمة وتقى وتقاة .                                                              وفي الأمثال الشعبية :” من كان وريثك لا تحاسبه ”                                                                 ومن أمثلة الموروثات الشعبية تعليم المرأة ابنتها الخياطة والتطريز والغزل والنسيج والعجن والطهي  وتدريب الرجل لابنه على عادات الفروسية والكرم واستقبال الضيوف وعمل القهوة لهم  ومجالسة الرجال والوجهاء ومعرفة أمور القضاء العشائري والقوانين والأعراف القبلية  وكذلك معرفة الفلاحة وزراعة الأرض وتربية المواشي من أجل العيش والارتزاق .
ومن هنا نرى أهمية التراث في نقل كل ما هو جميل من العادات والقيم والأخلاق الحميدة من جيل إلى جيل ، والحفاظ على التراث هو حفاظ على القومية  والهوية الوطنية واللغة من التلف والضياع .


العادات : جمعٌ لكلمة عادة  وهي من الفعل تعوّد يتعوّد تعويداً ، ومعنى هذه الكلمة ومفهومها الدارج هو تلك الأشياء التي درج الناس على عملها أو القيام بها أو الاتصاف بها ، وتكرَّرَ عملها حتى أصبحت شيئاً مألوفاً ومأنوساً وهي نمطٌ من السلوك أو التصرُّف يُعتادُ حتى يُفعل تكراراً ، ولا يجد المرء غرابة في هذه الأشياء لرؤيته لها مرات متعددة في مجتمعه وفي البيئة التي يعيش فيها .والعادة اصطلاحاً هي : ما يعتاده الإنسان أي يعود إليه مراراً متكررة . نقول عاد الشيءُ فلاناً ، أي أصابه مرة بعد أخرى ، يقال : عاده الشوقُ أو الحنين أي رجع إليه مرة بعد مرة . ونقول : عَوَّدهُ على .. أي جعله يعتاد هذا الشيء حتى يصير عادة له . وسمعتُ شيخاً يذكر مرضاً يعتاده كلّ عام ويقول :” كل معيود مبارك “. وهناك مثل شعبي يقول :” بن آدم عَوَّاد على أثره “.وفي لسان العرب في مادة :ع و د : أنشد ابن الأعرابي 
لم تَزَلْ تِلْكَ عادَةَ اللهِ عِنْدي، والفَتى آلِفٌ لِما يَسْتَعِيدُ
وقال: 
تَعَوَّدْ صالِحَ الأَخْلاقِ، إِني رأَيتُ المَرْءَ يَأْلَفُ ما اسْتَعادا
والعيد : هو تلك المناسبة التي يتكرر مجيئها كلّ عام في وقتها المحدّد ، والعِيدِيّة : هي تلك الهدية النقدية التي يعطيها الرجل لبناته وأخواته ومن له صلة رحم بهن في الأعياد وغالباً ما يكون ذلك في عيد الأضحى المبارك .وحتى كلمة عيادة تعني المكان الذي يرتاده الناس من وقت لآخر من أجل المعالجة والاستشفاء .فالعادة إذن هي ما تكرر فعله حتى أصبح ديدناً ، وألفته الأبصار لكثرة مشاهدته في حياة الناس اليومية .والعرب يكرهون إنشاء العادات الجديدة خشية على عاداتهم المتوارثة ، وخوفاً أن يكون في هذه العادات الجديدة ما يُفقد مجتمعهم بعض المواصفات الكريمة التي يفضلون بقاءها حية فيه ، ويقولون في ذلك :” ابْطِلْ عَادة ولا تُنْشِيء عَادة ” ، والمعنى مفهوم من ذلك                                                                                                                                 التقاليد : جمع لكلمة تقليد  وهي من الفعل قلَّدَ يُقلِّدُ تقليداً ، ومعناها أن يُقلِّد جيلٌ أساليب الجيل الذي سبقه ويسير عليها ، إن كان ذلك في الملبس أو في السلوك والتصرفات أو في العقائد والأعمال المختلفة التي يرثها الخلف عن السلف  وفي المنجد ، التقليد : ج تقاليد وهو ما انتقل إلى الإنسان من آبائه ومعلميه ومجتمعه من العقائد والعادات والعلوم والأعمال .ويقال قَلَّدَ فلاناً : أي اتبَعَهُ وحاكاهُ فيما يقول أو يفعل من غير حجة ولا دليل .وفي تراثنا وحياتنا الاجتماعية عندما نرى فتاة تطرِّز قطعة من القماش لتعمل منها ثوباً ، فإننا ندرك أنها تُقلِّد والدتها في ذلك . وكذلك لو بدأت تعجن الدقيق أو تتعلم الطهي على الصاج أو غيره فهي تكتسب تلك المهارات مما تراه عند والدتها وتقلدها في ذلك متخذة إياها قدوة لها تسير على نهجها وتتبع خطواتها وتسلك مسلكها .والطفل عندما يبدأ النطق فهو يقلد والديه ويحاكيهم في لفظهم وتصرفاتهم حتى يستقيم لسانه ويهتدي إلى اللفظ السليم .وكذلك في السلوكيات فإن للبيت أثره البارز على تنشئة الأولاد وتربيتهم على الأسس السليمة ، فمن يتربى في أسرة محافظة ملتزمة بدينها يسير على نهج والديه ، ومن يتربى في أسرة فاسدة فالنتيجة معروفة إلا من رحم ربي .وكثيراً ما نرى ترادفاً ظاهراً بين كلمتي عادات وتقاليد فنرى الناس يقولون : من عاداتنا وتقاليدنا فعل كذا ..أو إننا نحافظ على عاداتنا وتقاليدنا .. فالعادات والتقاليد مثلاً تقضي بأن لا تزوّج عائلة ابنها أو ابنتها من عائلة أخرى ، ليس لأن في تلك العائلة ما يعيبها ، ولكنهم ساروا في أثر آبائهم وقلدوهم في تصرفاتهم ولم يغيروا أو يبدلوا شيئاً .وكثيراً ما نرى بعض الصفات التي تدلّ على القِدَم والجهل والعمى تلتصق بكلمة التقليد مثل : تقليد أعمى ، وتقاليد بالية وغيرها من الألفاظ والعبارات التي يستعملها المفلسون في أغلب الأحيان .وكثير من الأشياء التي ذكرناها تحت عنوان العادات يمكن أن تندرج تحت هذا الباب وليس في الإعادة فائدة .وفي أمثالنا الشعبية :” اللي يعاشر القوم أربعين يوم ، صار منهم ” لأنه يتعلم طباعهم ويجاريهم في عاداتهم وتقاليدهم ويعرف عنهم كل صغيرة وكبيرة .
التراث

إن التراث الشعبي ثروة كبيرة من الآداب والقيم والعادات والتقاليد والمعارف الشعبية والثقافة المادية والفنون التشكيلية والموسيقية ، وهو علم يدرس الآن في الكثير من الجامعات والمعاهد لذا فإن الاهتمام به من الأولويات الملحة                                                                  التراث هو ما ينتقل من عادات وتقاليد وعلوم وآداب وفنون ونحوها من جيل إلى جيل ، نقول : ” التراث الإنساني ” التراث الأدبي ، التراث الشعبي ” ، وهو يشمل كل الفنون والمأثورات الشعبية من شعر وغناء وموسيقى ومعتقدات شّعبية وقصص وحكايات وأمثال تجري على ألسنة العامة من الناس ، وعادات الزواج والمناسبات المختلفة وما تتضمنه من طرق موروثة في الأداء والأشكال ومن ألوان الرقص والألعاب والمهارات .                                                                      التراث                                                                                                                                                                                       بمفهومه البسيط هو خلاصة ما خلَفته (ورثته ) الأجيال السالفة للأجيال الحالية . التراث هو ما خلفه الأجداد لكي يكون عبرة من الماضي ونهج يستقي من الأبناء الدروس ليعبروا بها من الحاضر إلى المستقبل. والتراث في الحضارة بمثابة الجذور في الشجرة، فكلما غاصت وتفرعت الجذور كانت الشجرة أقوى وأثبت وأقدر على مواجهة تقلبات الزمان. ومن الناحية العلمية هو علم ثقافي قائم بذاته يختص بقطاع معين من الثقافة (الثقافة التقليدية أو الشعبية) ويلقي الضوء عليها من زوايا تاريخية وجغرافية واجتماعية ونفسية. التراث الشعبي عادات الناس وتقاليدهم وما يعبرون عنه من آراء وأفكار ومشاعر يتناقلونها جيلاً عن جيل. ويتكون الجزء الأكبر من التراث الشعبي من الحكايات الشعبية مثل الأشعار والقصائد المتغنّى بها وقصص الجن الشعبية والقصص البطولية والأساطير. ويشتمل التراث الشعبي أيضًا على الفنون والحرف وأنواع الرقص، واللعب واللهو، والأغاني أو الحكايات الشعرية للأطفال والأمثال السائرة والألغاز والأحاجي، والمفاهيم الخرافية والاحتفالات والأعياد الدينية.
تستخدم مواد التراث الشعبي والحياة الشعبية في إعادة بناء الفترات التاريخية الغابرة للأمم والشعوب والتي لا يوجد لها إلا شواهد ضئيلة متفرقة وتستخدم أيضا لإبراز الهوية الوطنية والقومية والكشف عن ملامحها. التراث والمأثورات التراثية بشكلها ومضمونها أصيلة ومتجذرة إلا أن فروعها تتطور وتتوسع مع مرور الزمن وبنسب مختلفة وذلك بفعل التراكم الثقافي والحضاري وتبادل التأثر والتأثير مع الثقافات والحضارات الأخرى وعناصر التغيير والحراك في الظروف الذاتية والاجتماعية لكل مجتمع. ويتنوع التراث باختلاف ما تحمله الجذور إلى الشجرة. فقد تحمل إليها قُوتًها المُمَثل في الأملاح المعدنية وهو بمثابة ما دوّن من التراث فإن فقد فستصير الأمة كشجرة حبست عنها الأملاح المعدنية فستذبل حتما شيئا فشيئا ثم تضمحل.وقد تحمل الجذور الماء فتتناقله مكونات الشجرة ليشربوا منه واحدا تلو الآخر فيشرب كل سلف ويسلم الماء لخلفه شأن تواترته الأجيال أبا عن جد من تراث شفوي كالأمثال الشعبية والحكايات الهادفة وغيرهما. فمن رفض الماء وحبسه عن نفسه سيجف من محتواه القومي ثم ينقطع عن سياق حضارته فيسقط من على الشجرة إلى سطح الأرض حيث نقطة الصفر. في جانب آخر، نلاحظ جريان سلوكيات خاصة في عروق كل أمة. وهو تراث سلوكي يمثل بالهواء الذي يبث الحياة في الشجرة فهو ملتصق بها التصاق السلوك بالإنسانية كما أنها تتحرك بحركته حينما يدغدغها نسيمه العليل. أما ما خلفه الأجداد من آثار ظلت مصانة كالحصون والقصور والسيوف والدروع وغيرها مما شهد على أمجاد أمتنا العظيمة فهو بمثابة المواد العضوية التي تركتها الكائنات الأخرى في تربة بعد مذبلها أو مماتها لكي تنهل منها الشجرة إلى أن تصبح قادرة على تكوين مادتها العضوية بنفسها…

سعد الدين الشاذلى

الفريق سعد الدين محمد الحسيني الشاذلي (1 أبريل 1922 - 10 فبراير 2011)، قائد عسكري مصري, شغل منصب رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية في الفترة ما بين 16 مايو 1971وحتى 13 ديسمبر 1973 ومؤسس وقائد أول فرقة سلاح مظلات فيمصر وأمين عام مساعد جامعة الدول العربية للشؤون العسكريةوسفير سابق لدى إنجلترا والبرتغال ومحلل عسكري، يعتبر من أهم أعلام العسكرية العربية المعاصرة. يوصف بأنه الرأس المدبر للهجوم المصري الناجح على خط الدفاع الإسرائيلي بارليف في حرب أكتوبرعام 1973النشأة
ولد بقرية شبراتنا مركز بسيون في محافظة الغربية في دلتا النيل في 1 أبريل 1922 في أسرة فوق المتوسطة كان والده من الأعيان، وكانت أسرته تملك 70 فدانًا، أبوه هو الحاج الحسيني الشاذلي، وأمه السيدة تفيدة الجوهري وهي الزوجة الثانية لأبيه، وسمىّ على اسم الزعيم سعد زغلول، كان والده أحد ملاك الأراضي الزراعية وقد تزوج مرتين وأنجب من الأولى تسعة أبناء هم: محمد وحامد وعبدالحكيم والحسيني وعبدالسلام ونظيمة وفريدة وبسيمة ومرسية. أما الثانية تفيدة الجوهري وهي والدة الفريق الشاذلي فقد أنجبت له مظهر وسعد وألفت ونبيلة ومنذ الطفولة الباكرة ارتبط وجدانياً وعقلياً بحب العسكرية، كان الطفل الصغير يستمع إلى حكايات متوارثة حول بطولات جده لأبيه الشاذلي، الذي كان ضابطاً بالجيش، وشارك في الثورة العرابية وحارب في معركة التل الكبير.
ابن عم والده هو عبدالسلام باشا الشاذلي الذي تولى مديرية البحيرة ثم تولى بعد ذلك وزارة الأوقاف.
تلقى الشاذلي العلوم في المدرسة الابتدائية في مدرسة بسيون التي تبعد عن قريته حوإلى 6 كيلو مترات ، وبعد إكماله الإبتدائية، انتقل والده للعيش في القاهرة وكان عمره وقتئذ 11 سنة، وأتم المرحلةالإعدادية والثانوية في مدارس القاهرة.

صورة نادرة للملازم الشاذلي مع الملك فاروقأثناء التحضير للذهاب إلى حرب فلسطين 1948ضمن سرية من الحرس الملكي (يتوسط المجموعة يمين الصورة)
  • التحق بالكلية الحربية في فبراير 1939 وكان أصغر طالب في دفعته
  • تخرج من الكلية الحربية في يوليو 1940 برتبة ملازم في سلاح المشاة في نفس دفعة خالد محيي الدين
  • في عام 1943 تم انتدابه للخدمة في الحرس الملكي وكان حينئذبرتبة ملازم
  • شارك في حرب فلسطين 1948
  • شارك في الحرب العالمية الثانية
  • مؤسس وقائد أول فرقة سلاح مظلات في مصر (1954 - 1959)
  • قائد الكتيبة 75 مظلات خلال العدوان الثلاثي عام 1956
  • قائد أول قوات عربية (قائد كتيبة مصرية) في الكونغو كجزء من قوات الأمم المتحدة (1960 - 1961)
  • ملحق حربي في لندن (1963-1961)
  • قائد اللواء الأول مشاة (شارك في حرب اليمن) (1965 - 1966)
  • قائد القوات الخاصة (المظلات والصاعقة) (1967 - 1969)
  • قائد لمنطقة البحر الأحمر العسكرية (1970 - 1971)
  • رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية (1971 - 1973)
  • أمين عام مساعد جامعة الدول العربية للشؤون العسكرية (1971 -1973)
  • سفير مصر في بريطانيا (1974-1975)
  • سفير مصر في البرتغال (1975-1978)

التاريخ العسكري

الضباط الأحرار

بدأت علاقته بجمال عبد الناصر حين كان يسكن في نفس العمارة التي يسكنها جمال عبد الناصر بالعباسية قبل ثورة 23 يوليو. وكانت بينهم علاقات أسرية، وبالاضافة كونهم ضباط مدرسين في مدرسة الشؤون الإدارية وكانا يلتقيان بشكل يومي، وقد فاتحه جمال عبد الناصر عن الضباط الأحرار في 1951، ورحب الشاذلي  بالفكرة وانضم إليهم ولكنه لم يشارك في ليلة 23 يوليو 1952 بشكل مباشر كونه كان في دورة في كلية أركان الحرب

سلاح المظلات


الفريق الشاذلي  مؤسس سلاح المظلات في مصر
  • سافر وهو برتبة رائد إلى الولايات المتحدة الأمريكية في بعثة تدريبية متقدمة عام 1953 في المظلات وهو من أول من حصل على فرقة رينجرز وهي مدرسة المشاة الأميركية. وكان قائداً للكتيبة75 مظلات أثناء العدوان الثلاثي عام 1956. وتولى قيادة سلاح المظلات خلال الفترة من 1954 - 1959.
أثناء احتفالات بعيد الثورة والذي كان سيقام في 23 يوليو 1954، اقترح الشاذلي على اللواء نجيب غنيم قائد منطقة القاهرة بإظهار سلاح المظلات بصورة مختلفة عن باقي وحدات القوات المسلحة التي كانت تمشي بالخطوة العادية أمام المنصة كما هو معروف، اقترح بأن تقوم كتيبة سلاح المظلات باستعراض المشي بالخطوة السريعة أمام المنصة، وكان بذلك أول من أقترح المشي بالخطوة السريعة في العروض العسكرية الخاصة لقوات المظلات، والتي أصبحت مرتبطة بقوات الصاعقة والمظلات وما ميزها عن سائر القوات ونقلتها الدول العربيةفيما بعد.

الكونغو


العقيد الشاذلي مع الرئيس جمال عبد الناصرخلال زيارته للسودان في 23 نوفمبر 1960 وفي الصورة الرئيس السوداني إبراهيم عبود
في عام 1960 (أيام الوحدة مع سوريا) أرسل جمال عبد الناصر بقيادةالعقيد الشاذلي كتيبة مظلات كجزء من قوات الأمم المتحدة إلى الكونغو، بطلب من رئيس الوزراء لومومبا وبالتنسيق مع داغ همرشولد أمين عام الأمم المتحدة، لحفظ الأمن والقانون وبهدف منع بلجيكا من العودة إلى احتلال بلاده التي استقلت في 30 يونيو 1960.
كانت الكتيبة العربية مكونة من 5 سرايا (4 سرايا من مصر وسرية منسوريا) والتي أصبح اسمها الكتيبة العربية في الكونغو وتمركزت الكتيبة في أقصي الشمال على بعد أكثر من 1200 كيلو من العاصمة. وكانت أول قوة عربية ترسل للقيام بمهام خارجية تحت قيادة الأمم المتحدة.
تطورت الأحداث وقاد رئيس هيئة الأركان الجنرال موبوتو سيسيسيكو انقلاباً عسكرياً سيطر به على البلاد، وتمكن لومومبا من الهرب إلا أنه اعتقل وقتل في يناير 1961.
حينئذ أرسل جمال عبد الناصر لجنة عسكرية برئاسة العميد أحمد إسماعيل علي إلى الكونغو لدراسة ما يمكن لمصر أن تقدمه للنهوض بالجيش الكونغولي، ولكن الوضع قد تغير فالحكومة الجديدة كانت تناصب العداء لجمال عبد الناصر وتطالب بإعادة القوات العربية. في تلك الفترة وقع الخلاف بين العقيد الشاذلي والعميد أحمد إسماعيل علي .
بعد مقتل لومومبا أحس الشاذلي بالخطر وقرر بشكل منفرد تسريب جنوده من مواقعهم، كما أمن تهريب أبناء لومومبا إلى مصرقبل انسحاب الكتيبة المصرية.

حرب 1967


أظهر الفريق الشاذلي تميزًا نادرًا وقدرة كبيرة على القيادة والسيطرة والمناورة بقواته خلال نكسة 1967، عندما كان برتبة لواء ويقود مجموعة مقتطعة من وحدات وتشكيلات مختلفة (كتيبة مشاة وكتيبة دبابات وكتيبتان من الصاعقة) مجموع أفرادها حوإلى 1500 ضابط وفرد والمعروفة بمجموعة الشاذلي في مهمة لحراسة وسط سيناء (بين المحور الأوسط والمحور الجنوبي).
بعد ضرب سلاح الجو المصري وتدميره على الأرض في صباح 5 يونيو، واجتياح القوات الإسرائيلية لسيناء، اتخذت القيادة العامة  بالإنسحاب غير المنظم والذي أدى إلى إرباك القوات المصريةوانسحابها بشكل عشوائي بدون دعم جوي، ما نتج عنه خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات وانقطعت الإتصالات بين القوات المتواجدة في سيناءوبين القيادة العامة المصرية في القاهرة ما أدى إلى حدوث حالة من الفوضى بين القوات المنسحبة، والتي تم قصفها بواسطة الطيرانالإسرائيلي.
في تلك الأثناء، انقطع الإتصال بين الشاذلي وقيادة الجيش في سيناء، وكان عليه أن يفكر في طريقة للتصرف وخصوصاً بعد أن شاهد الطيران الإسرائيلي يسيطر تمامًا على سماء سيناء، فاتخذ الشاذلي قرارا جريئا حيث عبر بقواته شرقًا وتخطى الحدودالدولية قبل غروب يوم 5 يونيو واتجه شرقاً فيما كانت القوات المصرية تتجهة غرباً للضفة الغربية للقناة)، وتمركز بقواته داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة بحوإلى خمسة كيلومترات شرقا داخل صحراء النقب. من خلال شريط ضيق بعيد عن مسار الطيران الإسرائيلي، وبقي الشاذلي في النقب لمدة يومين 6 يونيو و7 يونيو، واتخذ موقعاً بين جبلين لحماية قواته منالطيران الإسرائيلي، إلى أن تمكن من تحقيق اتصال بالقيادة العامة بالقاهرة التي أصدرت إليه الأوامر بالإنسحاب فورًا.
استجاب الشاذلي لتلك الأوامر وقام بعملية مناورة عسكرية رائعة، حيث قام بعملية الإنسحاب ليلا وقبل غروب يوم 8 يونيو في ظروف غاية في الصعوبة, ورغم هذه الظروف لم ينفرط عقد قواته، كما حدث مع وحدات أخرى، لكنه ظل مسيطرًا عليها بمنتهى الكفاءة.
استطاع الشاذلي بحرفية نادرة أن يقطع أراضي سيناء كاملة من الشرق إلى الشط الغربي لقناة السويس (حوإلى 200 كم) في عملية انسحاب عالية الدقة، بإعتبار أن الشاذلي كان يسير في أرض يسيطر العدو تماماُ عليها، ومن دون أي دعم جوي وبالحدود الدنيا من المؤن، إلى أن وصل الضفة الغربية للقناة، وقد نجح في العودة بقواته ومعداته إلى الجيش المصري سالما، وتفادى النيران الإسرائيلية وتكبد خسائر بنسبة 10% إلى 20%. وكان بذلك آخر قائد مصري ينسحب بقواته من سيناء قبل أن تتم عملية نسف الجسور المقامة بين ضفتي القناة.
بعد عودة الشاذلي إلى غرب القناة اكتسب سمعة كبيرة في صفوف الجيش المصري فتم تعيينه قائدًا للقوات الخاصةوالصاعقة والمظلات في الفترة (1967 - 1969)  وقد كانت أول وآخر مرة في التاريخ المصرى يتم فيها الجمع بين القوات الثلاث

قائد منطقة البحر الأحمر


الشاذلي خلال زيارة الى مدرسة طلاب صف المعلمين
أثناء حرب الإستنزاف كانت إسرائيل تقوم بغارات خاطفة على منطقة البحر الأحمر وتتم عمليات اختطاف يومية للمدنيين وتدمير المنشآت على سواحل البحر الأحمر والتي وصلت ذورتها في حادثة الزعفرانة في 9  1969.
رأى جمال عبد الناصر أن اللواء الشاذلي أنسب شخص يستطيع وقف اختراقات إسرائيل لمنطقة البحر الأحمر وتأمين المنطقة وقام بتعيينه قائداً لمنطقة البحر الأحمر العسكرية في 1970 وتمكن اللواء الشاذلي من وقف عمليات الإختطاف اليومية التى كانت تتم ضد مدنيين وموظفين الذين كانوا يؤخذون كأسرى من جانب القوات الإسرائيلية في تلك الفترة، واستطاع وقف الهجمات الإسرائيلية.

حادثة شدوان

في 22 يناير 1970 قامت إسرائيل بالهجوم على جزيرة شدوان الواقعة في البحر الأحمر بالقرب من مدخل خليج السويس  وتبعد عن الغردقة 35 كيلو متر وعن السويس 325 كيلو متر، وعليها فنار لإرشاد السفن ورادار بحري, وتؤمنها سرية من الصاعقة المصرية. وأهميتها العسكرية بحتة لأنها جزيرة صخرية غير مسكونة ومساحتها لا تتجاوز 60 كيلومتر مربع.
قامت القوات الإسرائيلية بقصف الجزيرة جويا وأعقبته بإبرار جنود من الهليكوبتر و زوارق الإنزال في محاولة لإحتلالها، وقد صمدت فيها حامية صغيرة من الصاعقة المصرية أمام قوة نيران إسرائيلية ضخمة وكان الإسرائيليون قد أعلنوا مساء ليلة القتال الأولى أن قواتهم "لا تجد مقاومة على الجزيرة" إلا أنهم عادوا واعترفوا في الثالثة من بعد ظهر إلىوم التإلى أن القتال لا يزال مستمرا على الجزيرة.
أمر اللواء الشاذلي  بمهاجمة الجزيرة بمساعدة عدد من الصيادين من أبناء المحافظة, ما أثمر في نقل الجنود والمعدات وسط الظلام إلى جزيرة شدوان للقيام بالهجوم على القوات الإسرائيلية واستمرت المعارك في الجزيرة 36 ساعة متواصلة، فشلت القوات الإسرائيلية بعدها في احتلال الجزيرة وتم تحريرها في معركة شدوان.

رئيس أركان حرب القوات المسلحة


الفريق الشاذلي يصافح الرئيس السادات عام 1971
في 16 مايو 1971 وبعد إطاحة الرئيس أنور السادات بأقطاب النظام الناصري، فيما سماه بثورة التصحيح عين الشاذلي رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة المصرية باعتبار أنه لم يكن محسوبًا على أي من المتصارعين على الساحة السياسية المصرية آنذاك. ولكفاءته و قدرته العسكرية و لخلفيته الغنية التي اكتسبها من دراسته بين الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفيتي في العلوم العسكرية إلي جانب تاريخه العسكري

خلافه مع الفريق أول محمد صادق


الفريق الشاذلي مع الفريق أول محمد صادق وفي الصورة الرئيس السابق محمد حسني مبارك قائد سلاح الطيران ومحمد علي فهمي قائد قوات الدفاع الجوي في إحدى المناسبات في 1972
عند تعيين الشاذلي رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة المصرية كانوزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة وقتئذ الفريق أول محمد صادقالذي دخل معه في خلافات حول خطة العمليات الخاصة بتحرير سيناء.
كان الفريق أول محمد صادق يرى أن الجيش المصري يتعين عليه ألا يقوم بأي عملية هجومية إلا إذا وصل إلى مرحلة تفوق على العدو في المعدات والكفاءة القتإلية لجنوده، عندها فقط يمكنه القيام بعملية هجومية واسعة تدمر القوات الإسرائيلية في سيناء وتتقدم إلى المضائق ومنها إلىغزة.
وكان رد الشاذلي على مقترحاته أنه يود ذلك إلا أن هذا الرأي لا يتماشى مع الإمكانيات الفعلية للقوات المسلحة لضعف القوات الجوية وعدم وجوددفاع جوي متحرك يحمي القوات المتقدمة.
شرع الشاذلي في وضع خطة هجومية وفق إمكانات القوات المسلحة تقضي بإسترداد من 10 إلى 12 كم في عمق سيناء. وبنى رأيه على أنه من المهم تفصيل الإستراتيجية الحربية على إمكانياتك وطبقا لإمكانيات العدو. إلا ان الفريق أول محمد أحمد صادق عارض الخطة بحجة أنها لا تحقق أي هدف سياسي أو عسكري فمن الناحية السياسة فهي لن تحقق شيئا وسوف يبقى 60 ألف كيلومتر مربع من أرض سيناء تحت سيطرة إسرائيل أما عسكريا فهي ستخلق للجيش المصري موقفا صعبا بدل من الموقف الحالى الذي يعتمد على قناة السويس كمانع طبيعي في حين أن خطوط المواصلات عبر الجسور المقامة في القناة ستكون تحت رحمة الطيران الإسرائيلي.
وبعد نقاشات مطولة بين الشاذلي والفريق أول محمد صادق توصل الشاذلي إلى حل وسط وهو إعداد خطتين الأولى تهدف إلى احتلال المضائق أطلق عليها اسم العملية 41 والثانية تهدف إلى الاستيلاء على خط بارليف وأطلق عليها اسم عملية بدر ولكن الفريق أول محمد أحمد صادق لم يقتنع ومن وجهة نظرة أن مصر لن تحتمل هزيمة أخرى.
في 26 أكتوبر 1972 أقال أنور السادات الفريق أول محمد صادق من وزارة الحربية لإختلافه مع رؤيته لتحرير الأرض واقتناعه برؤية الشاذلي وعين المشير أحمد إسماعيل علي وزيراً للحربية والقائد العام للقوات المسلحة, والذي كان قد أحيل للتقاعد في أواخر أيام الرئيس جمال عبد الناصر والذي بينه وبين الفريق الشاذلي خلافات قديمة، ولكنهما التزما بالعمل فيما بينهما للإعداد لحرب أكتوبر.

خلافه مع المشير أحمد إسماعيل علي


الفريق الشاذلي مع المشير أحمد إسماعيل علي
تصادف وجود العقيد الشاذلي و العميد أحمد إسماعيل علي في الكونغوعام 1960 حاول خلالها أحمد إسماعيل فرض هيمنته الإدارية والعسكرية على الشاذلي بحكم رتبته العسكرية الأعلى، رغم اختلاف مهمتيهما ومرجعيتيهما. ورفض الشاذلي هذا المنطق وتبادل كلاهما الكلمات الخشنة حتى كادت تصل إلى الإشتباك بالأيدي. وبعد أن علمت القيادة بالقاهرة بذلك استدعت اللجنة وانتهى الصراع ولكن آثاره بقيت في أعماق كل منهما وبعد عودة الشاذلي من الكونغو لم يكن هناك أي اتصال مباشر بينهما حيث أن أحمد إسماعيل كان في المشاة بينما الشاذلي كان في المظلات.
في 10 مارس 1969 فوجئ الشاذلي  بتعيين أحمد إسماعيل رئيساُ لهيئة أركان حرب القوات المسلحة بعد مقتل الفريق أول عبد المنعم رياض في 9 مارس 1969) فقام الشاذلي بتقديم استقالته لدى مكتب وزير الحربيةمحمد فوزي. باعتبار أن أحمد إسماعيل سيحتك به مرة أخرى من خلال منصبة الجديد ولكن الرئيس جمال عبد الناصر تدخل وأرسل زوج ابنته أشرف مروان إلى الشاذلي حيث أقنعه بالعودة إلى عمله بعد أن أكد له وعد الرئيس جمال عبد الناصر بعدم احتكاك أحمد إسماعيل به. وبالفعل لم تطأ قدم أحمد إسماعيل طوال الشهور الستة التي قضاها رئيسا للأركان قاعدة أنشاص التي كان يعمل بها الشاذلي قائدا للقوات الخاصة (الصاعقة والمظلات) إلى أن تم إحالة أحمد إسماعيل إلى التقاعد بأمر من الرئيسجمال عبد الناصر في 9 سبتمبر 1969 إثر حادثة الإغارة الإسرائيلية على الزعفرانة في خليج السويس.
في 26 أكتوبر 1972 أقال الرئيس أنور السادات الفريق أول محمد أحمد صادق لإختلافهما حول خطة العبور وقام بتعيين أحمد إسماعيل وزير الحربية وقائداً عاماً للقوات المسلحة وكان قبلها قد استدعى من المعاش وعينه الرئيس أنور السادات مدير للمخابرات العامة في 15 مايو 1971 عرض الرئيس أنور السادات الأمر على الشاذلي وكانت مفاجأة سيئة بالنسبة له، فروى للرئيس التاريخ الطويل للخلافات بينهما مما يجعل التعاون بينهما شبه مستحيل. ولكن الرئيس أنور السادات أكد له أن العلاقة بينهما ستكون حسنة وأفضل كثيرا من العلاقة السابقة بينه وبين الفريق أول محمد صادق. وفكر الش الشاذليوقتئذ في الإستقالة، ولكن منعه عاملين أولهما إن استقالته سوف تفسر على أنها تضامن مع الفريق أول محمد صادق بعد اقالة الرئيس له وثانيهما أن البعض قد يفسر استقالته بأنه لا يريد دخول الحرب في حين أن الحقيقة هي عكس ذلك .

الفريق الشاذلي مع الوزير أحمد إسماعيل والرئيس السادات


الفريق الشاذلي المخطط الرئيسي لعملية بدر
هي الخطة التي وضعها الشاذلي للهجوم على القوات الإسرائيلية واقتحام قناة السويس في شهر أغسطس 1971 والتي سماها خطة المآذن العالية :
وضعت هذه الخطة بسبب ضعف القوات الجوية المصرية وضعف امكانيات في الدفاع الجوي المصري ذاتي الحركة مما يمنع القيام بعملية هجومية كبيرة. ولكن يمكن القيام بعملية محدودة لعبور قناة السويس وتدمير خط بارليف واحتلال من 10 إلى 12 كيلومتراً شرق القناة وهو أقصى نطاق للدفاع الجوي المصري، والتحول بعد ذلك لأخذ مواقع دفاعية.
كانت فلسفة هذه الخطة تقوم على أن لإسرائيل نقطتي ضعف هما :
  • الأول: هو عدم قدرتها على تحمل الخسائر البشرية نظرًا لقلة عدد أفرادها.
  • الثاني: هو إطالة مدة الحرب، فهي في كل الحروب السابقة كانت تعتمد على الحروب الخاطفة التي تنتهي خلال أربعة أسابيع أو ستة أسابيع على الأكثر؛ لأنها خلال هذه الفترة تقوم بتعبئة 18% من الشعب الإسرائيلي وهذه نسبة عالية جدًّاً. ثم إن الحالة الاقتصادية ستتأثر بشدة في إسرائيل وذلك لتوقف التعليم والزراعة والصناعة لأن معظم الذين يعملون في هذه المؤسسات في النهاية ضباط وجنود في القوات المسلحة الإسرائيلية.
الخطة كان لها بعدان آخران على صعيد حرمان إسرائيل من أهم مزاياها القتالية وهما :
  • الأولى: حرمانه من الهجوم من الأجناب لأن أجناب الجيش المصري ستكون مرتكزة على البحر المتوسط في الشمال وعلىخليج السويس في الجنوب، ولن يستطيع الهجوم من المؤخرة التي ستكون قناة السويس فسيضطر إلى الهجوم بالمواجهة وعندها سيدفع الثمن فادحاً
  • الثانية: يتمتع العدو بميزة مهمة في المعارك التصادمية، وهي الدعم الجوي السريع للعناصر المدرعة التابعة له، حيث تتيح العقيدة القتالية الغربية التي تعمل إسرائيل بمقتضاها للمستويات الصغرى من القادة بالإستعانة بالدعم الجوي وهو ما سيفقده لأن القوات المصرية ستكون في حماية الدفاع الجوي المصري، ومن هنا تتم عملية تحييد الطيران الإسرائيليخلال المعركة.

حرب أكتوبر 1973

في يوم 6 أكتوبر 1973 في الساعة 14:05 (الثانية وخمس دقائق ظهراً) شن الجيشان المصري السوري هجوما كاسحا على القوات الإسرائيلية بطول الجبهتين، ونفذ الجيش المصري خطة المآذن العاليةالتي وضعها الشاذلي بنجاح غير متوقع لدرجة عدم صدور أي أوامر من القيادة العامة لأي وحدة فرعية. لأن القوات كانت تؤدي مهامها بمنتهى الكفاءة
بحلول الساعة الثانية من صباح يوم الأحد 7 أكتوبر 1973، حققت القوات المصرية نجاحا حاسما في معركة القناة، وعبرت أصعب مانع مائى في العالم وحطمت خط بارليف في 18 ساعة، وهو رقم قياسى لم تحققه أى عملية عبور في تاريخ البشرية، وقد تم ذلك بأقل خسائر ممكنة بلغت 5 طائرات و20 دبابة و280 شهيدا، ويمثل ذلك 2.5% من الطائرات و2% من الدباباتو0.3% من الرجال أما العدو ففقد 30 طائرة و300 دبابة وعدة آلاف من القتلة، وخسر معهم خط بارليف بكامله، وتم سحق ثلاثة ألوية مدرعة ولواء مشاة كانت تدافع عن القناة، وانتهت أسطورة خط بارليف التى كان يتغنى بها الإسرائيليون

الفريق الشاذلي وهو يعبر قناة السويس لزيارة جبهة القتال يوم 8 أكتوبر 1973 ويكون بذلك أول ضابط من القيادة العسكرية يزور جبهة القتال بعد العبور

الفريق الشاذلي مع الرئيس أنور السادات وقادة حرب أكتوبر في المركز 10 من اليمين محمد علي فهمي (الدفاع الجوي) وأحمد إسماعيل والسادات والشاذلي  ومحمد عبدالغني الجمسي (هيئة العمليات)وفؤاد نصار (المخابرات الحربية)
أرسلت القيادة العسكرية السورية مندوبًا للقيادة الموحدة للجبهتين التي كان يقودها المشير أحمد إسماعيل علي تطلب زيادة الضغط على القوات الإسرائيلية على جبهة قناة السويس لتخفيف الضغط على جبهة الجولان فطلب الرئيس أنور السادات من أحمد إسماعيل تطوير الهجوم شرقًا لتخفيف الضغط على سوريا.
عارض الشاذلي الفكرة بشدة بسبب أن أي تطوير خارج نطاق ال 12 كيلو التي تقف القوات فيها بحماية مظلة الدفاع الجوي وأي تقدم خارج المظلة معناه أننا نقدم قواتنا هدية للطيران الإسرائيلي، مازالت القوات الجوية الإسرائيلية قوية وتشكل تهديداً خطيراً لأية قوات برية تتحرك في العراء دون غطاء جوي, وأغلق الموضوع.
بعد الظهر كانت التعليمات الخاصة بتطوير الهجوم قد تم إعدادها ووصلت إلى قائدي الجيشين الثاني والثالث .
اتصل اللواء سعد مأمون قائد الجيش الثاني الميداني بالقيادة العامة طالباً مكالمة الشاذلي ليخبره بإستقالته ورفضه تنفيذ الأوامر، وبعدها بدقائق اتصل اللواء عبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث الميداني بالقيادة وأبدى معارضة شديدة لتلك التعليمات التي أرسلتها القيادة العامة إليه والمتعلقة بتطوير الهجوم. قال الفريق الشاذلي لهم أنه نفسه معترض على تطوير الهجوم لكنه أجبر على ذلك .
فاتح الفريق الشاذلي المشير أحمد إسماعيل مرة أخرى في الموضوع وأبلغه باعتراضات قائدي الجيشين وتقرر استدعاء اللواء سعد مأمون واللواء عبد المنعم واصل لحضور مؤتمر بالقيادة العامة. في مساء إلىوم نفسه، وفى خلال هذا المؤتمر الذى عقد من الساعة 6 إلى الساعة 11 مساءً، كرر كل منهم وجهة نظره مراراً وتكراراً، ولكن كان هناك إصرار من المشير أحمد إسماعيل أن القرار سياسي ويجب أن نلتزم به والشيء الوحيد الذي تغير هو تأجيل الهجوم من فجر يوم 13 أكتوبر إلى فجر يوم 14 أكتوبر كما كان محددا.
في صباح يوم 14 أكتوبر تم سحب الفرقتين المدرعتين 21 و4 وتم دفعهما شرقًا نحو المضائق. واصطدمت القوات المصريةالمتجه شرقاً بمقاومة إسرائيلية عنيفة وكمائن للدبابات وبإسناد جوي إسرائيلي مباشر ونسبة لتفوق قوات العدو في الدباباتوالتفوق الجوي وأن القوات المصرية تعمل خارج نطاق حماية الصواريخ المصرية ومنيت هذه القوة بخسارة فادحة في ساعات، وتراجعت إلى إثرها غرباً.

الفريق الشاذلي و الرئيس أنور السادات يستمعان إلى شرح المشير أحمد إسماعيل وفي الصورة محمد عبدالغني الجمسي وفؤاد نصار
فشلت خطة التطوير كما توقع الشاذلي  وخسرت القوات المصرية عدد 250 دبابة من قوتها الضاربة الرئيسية في ساعات معدودة من بدء التطوير للتفوق الجوي الإسرائيلي. وكان قرار التطوير وبتقدير الكثيرين من المتابعين للشأن العسكري أسوأ قرار إستراتيجي اتخذته القيادة السياسية، مما أضر كثيراً في سير العمليات فيما بعد وأثر على نتائج الحرب، وجعل ظهر الجيش المصري غرب القناة مكشوفاً لأية عملية التفاف وهو ما حدث بالفعل.
اقترح الشاذلي إعادة تجميع ما تبقى من الفرقتين المدرعتين 21 و4 من شرق القناة إلى غرب القناة وإعادتهما إلى مواقعهما الرئيسية للقيام بمهام التأمين التي تدربوا عليها، وليتمكنا من إعادة الاتزان إلى المواقع الدفاعية، ولكن المشير أحمد إسماعيل عارض الإقتراح على أساس أن سحب هذه القوات قد يوثر على الروح المعنوية للجنود وقد يفسره العدو على أنه علامة ضعف فيزيد من ضغطه على قواتنا، ويتحول الإنسحاب إلى ذعر. وعارض الشاذلي هذا الرأي معللا ذلك فيما بعد أن المشير أحمد إسماعيل كان يقود المعارك على الخرائط فقط، ولم يزر الجبهة قط إلا بعد وقف إطلاق النار ببضعة أسابيع،وإن عدم اتصاله بالضباط والجنود لم يسمح له بأن يلمس ما أحدثه نجاحنا في عبور قناة السويس في رفع روحهم المعنوية وفي استعادة ثقتهم بقادتهم
أصبحت المبادأة في جانب القوات الإسرائيلية التي استعدت لتنفيذ خطتها المعدة من قبل والمعروفة باسم الغزالة للعبور غربالقناة، وحصار القوات المصرية الموجودة شرقها خاصة وأن القوات المدرعة التي قامت بتطوير الهجوم شرقا هي القوات التي كانت مكلفة بحماية الضفة الغربية ومؤخرة القوات المسلحة وبعبورها القناة شرقا وتدمير معظمها في معركة التطوير. بعد فشل التطوير أصبح ظهر الجيش المصري مكشوفا غرب القناة. وقد استغلت إسرائيل تلك النقطة فيما عرف بعد ذلك بثغرة الدفرسوار.

الفريق الشاذلي مع قادة حرب أكتوبر 1973
اكتشفت طائرة استطلاع أمريكية من نوع SR-71 بلاك بيرد وجود ثغرة غير محمية وبعرض 25 كيلو بين الجيش الثالث الميداني فيالسويس والجيش الثاني الميداني في الإسماعيلية.
قام الأمريكان بإبلاغ القيادة الإسرائيلية التي وجدت فرصتها، فدفعت عبرالبحيرات المرة ثلاث مجموعات، تمكن بعضها في ليلة 15-16 أكتوبر من اجتياز قناة السويس إلى ضفتها الغربية بين الجيشين الثاني والثالثعند منطقة الدفرسوار القريبة من البحيرات المرة، أدى عبور هذه القوة إلى إحداث ثغرة في صفوف القوات المصرية عرفت باسم "ثغرة الدفرسوار". وتم نصب جسر طوف لعبور الدبابات والآليات المدرعة. يوم 16 أكتوبر تمكن لواءان وهما لواء مدرع ولواء مظلي من العبور والتواجد إلى غرب القناة بقيادة الجنرال أرئيل شارون قائد الفرقة المدرعة الإسرائيلية 143. وحاولت هذه القوة احتلال مدينةالإسماعيلية فتصدت لها لواء مظلات وكتيبتان صاعقة مصرية، ومنعتها من احتلال الإسماعيلية وكبدتها خسائر فادحة. ولكن تمكن أرئيل شارون من احتلال المنطقة ما بين مدينتي الإسماعيلية والسويس.
في يوم 17 أكتوبر، اقترح الفريق الشاذلي المناورة بالقوات وسحب الفرقتين المدرعتين 21 و4 من شرق القناة، وباستخدام هاتين الفرقتين يتم توجيه ضربة رئيسية للواءين الإسرائيليين غرب القناة، وفي الوقت نفسه يقوم اللواء 116 المتواجد غربالقناة بتوجيه ضربة أخرى للعدو بينما تقوم الفرقة 21 مدرعة المتواجدة شرق القناة، بتوجيه ضربة لقوات العدو بهدف إغلاق الطريق المؤدي إلى الثغرة. وليزيد من الخناق على القوات الإسرائيلية الموجودة في الغرب، والقضاء عليها نهائيا، علماً بأنالقوات الإسرائيلية يوم 17 أكتوبر كانت لواء مدرع ولواء مظلات فقط وتوقع الفريق الشاذلي عبور لواء إسرائيلي إضافي ليلا.
لم يقبل المشير أحمد إسماعيل الرئيس أنور السادات رأى الشاذلي بدعوى أن الجنود المصريين لديهم عقدة نفسية من عملية الإنسحاب للغرب منذ نكسة 1967 وبالتإلى رفض سحب أي قوات من الشرق للغرب وقرر أن تتم مواجهة الثغرة بقيام القوات المدرعة المصرية في الشرق (في سيناء) بسد منافذ عودة القوات الإسرائيلية المتسللة إلى سيناء، واستدعاء قوات تهاجمها من الغرب وبذلك تكون محصورة بين القوات المصرية.
وهنا وصلت الأمور بين الرئيس أنور السادات والمشير أحمد إسماعيل وبين الشاذلي إلى مرحلة الطلاق وقام الرئيس أنور السادات بإقصاء الفريق الشاذلي لفترة مؤقته خلال الحرب وعين محمد عبدالغني الجمسي بدلاً منه ليقوم بالتعامل مع الثغرة.
ازداد تدفق القوات الإسرائيلية، وتطور الموقف سريعا، إلى أن تم تطويق الجيش الثالث بالكامل في السويس ووصلت القوات الإسرائيلية إلى طريق السويس - القاهرة، ولكنها توقفت لصعوبة الوضع العسكري بالنسبة لها غرب القناة  خاصة بعد فشلالجنرال أرئيل شارون في الإستيلاء على مدينة الإسماعيلية وفشل الجيش الإسرائيلي في احتلال مدينة السويس، مما وضع القوات الإسرائيلية غرب القناة في مأزق صعب، وجعلها محاصرة بين الموانع الطبيعية والإستنزاف والقلق من الهجومالمصري المضاد الوشيك.

سفير بالمملكة المتحدة


في 12 ديسمبر 1973 أستدعى المشير أحمد إسماعيل الفريق الشاذلي ليبلغه بأن الرئيس أنور السادات قرر إنهاء خدمته كرئيس لهيئة أركان القوات المسلحة وذلك اعتباراً من 13 ديسمبر 1973، وأصدر قرارا آخر بتعيينه سفيراً بالدرجة الممتازة في وزارة الخارجية.
لكن الشاذلي رفض وفضل البقاء في منزله فأرسل إليه السادات محمد حسنى مبارك لإقناعه بالعرض، لكنه رد عليه قائلاً: قل للرئيس إذا كان هذا المنصب عقابا لي، فمن الأفضل أن أعاقب داخل بلدي، وإن كان مكافأة فمن حقي أن أرفضها.
بعدئذ نجح أنور السادات بنفسه في إقناعه بالسفر إلى لندن بعد مقابلته للفريق الشاذلي في يناير 1974 بأسوان بحجة أنه ستتم عملية إعادة تنظيم للقوات المسلحة بأسلحة غربية وأنه سيكون بالقرب من ألمانيا ويستطيع إنجاز صفقات الأسلحة السرية التى ستجلبها مصر من هناك بعد أن تغير المصدرالسوفيتي وبحجة أيضا أنه الأكثر دراية بهذه الأسلحة، وأنه سيكون المشرف على هذه الصفقات، وهذا ما دفع الشاذلي للموافقة، وغادر إلى لندن في 13مايو 1974 وبعد قيامة بالإتصال بالسفير الألماني في لندن اكتشف الشاذلي أنه لا توجد صفقات أسلحة.
قوبل الفريق الشاذلي  في لندن بحملة شرسة من اللوبي الصهيوني، موجهين إليه تهمة أنه إبان حرب أكتوبر أمر جنوده بقتل الأسرى اليهود وهى تهمة نفاها الفريق الشاذلى في سلسلة من الظهور الإعلامى في جميع وسائل الأعلام البريطانى.
فوجئ الجميع بالسفارة المصرية بلندن بعسكري مصري مشرف يتحدث بلغة إنكليزية طليقة تفوق في جودتها عشرات السفراء المدنيين، فضلاً عن أفكار غير تقليدية في العمل وقدرة واضحة علي الوصول إلي الهدف. وكان من أوائل من فطنوا إلي قيمة وزيرة التعليم البريطاني مارغريت ثاتشر، ومستقبلها السياسي المنتظر فدعاها هي وزوجها إلي عشاء رسمي في بيت مصر بالسفارة المصرية في حي ماي فير. كما دعى أسقف كانتبري علي العشاء ومعه كبار الشيوخ من بعثة الأزهر الشريف في المركز الإسلامي بلندن وهو تفكير ينم عن سعة الأفق والفهم البعيد لمسألة الوحدة الوطنية وتقديم صورة راقية عن الإسلام وسماحته .
استطاع االفريق الشاذلي  أن يكسب احترام المجتمع البريطاني في مواجهة تليفزيونية جرت بينه وبين السفير الإسرائيلي جدعون رافائيل في 12 فبراير 1975، واشترط أن يكون كل واحد منهما في مكان بعيد عن الآخر وكأنه بهذا الحديث رد المكائد التي دبرها اللوبي الصهيوني كلها وعلى حساب السفير الإسرائيلي نفسه. واكتسح الشاذلي السفير الإسرائيلي وأصبح حديث المدينة وبعثاتها الدبلوماسية لعدة أيام بعد ذلك.
في ديسمبر 1974 بعثت مصر المشير أحمد إسماعيل علي إلى لندن للعلاج بعد مضاعفات سرطان الرئة وقد زاره الفريق الشاذلي إلا أنه فارق الحياة في 25 ديسمبر 1974 في إحدى مستشفيات لندن عن عمر 57 عاماً، وقام الفريق الشاذلي بإنهاء إجراءات نقل جثمانة إلى مصر.
عمل الفريق الشاذلي سفيراً في لندن من 13 مايو 1974 إلى 1975 ثم بعد ذلك نقل إلى لشبونة عاصمة البرتغال من 1975إلى 1978.

انتقاده لمعاهدة كامب ديفيد

بعد توقيع الرئيس أنور السادات لمعاهدة كامب ديفيد عام 1978 انتقد الفريق الشاذلي بشدة تلك المعاهدة وعارضها علانية وهاجم الرئيس أنور السادات واتهمه بالديكتاتورية واتخذ القرار بترك منصبه سفيراً لدى البرتغال والذهاب إلى الجزائر كلاجئ سياسي.
عرض عليه العديد من الرؤساء والملوك الإقامة عندهم لكنه اختار الجزائر وبرر اختياره أنها دولة تقوم على مبدأ الحكم الجماعي وليس الحكم الفردي.

خلافه مع السادات

في عام 1978 أصدر الرئيس أنور السادات مذكراته البحث عن الذات واتهم فيها الفريق الشاذلي بالتخاذل وحمله مسؤولية التسبب بالثغرة ووصفه بأنه عاد منهاراً من الجبهة يوم 19 أكتوبر وأوصى بسحب جميع القوات في الشرق، هذا ما دفع بالفريق الشاذلي للرد على الرئيس أنور السادات بنشر مذكراته (حرب أكتوبر)، والذي يعتبر من أدق الكتب إلى تحدثت عنحرب أكتوبر.
اتهم الفريق الشاذلي في كتابه الرئيس أنور السادات بإتخاذ قرارات خاطئة رغماً عن جميع النصائح من المحيطين به من العسكريين وتدخله المستمر للخطط العسكرية أثناء سير العمليات على الجبهة أدت إلى التسبب في الثغرة وتضليل الشعب بإخفاء حقيقة الثغرة وتدمير حائط الصواريخ وحصار الجيش الثالث لمدة فاقت الثلاثة أشهر كانت تصلهم الإمدادات تحت إشراف الجيش الإسرائيلي.
كما اتهم في تلك المذكرات الرئيس أنور السادات بالتنازل عن النصر والموافقة على سحب أغلب القوات المصرية إلى غربالقناة في مفاوضات فض الإشتباك الأولى وأنهى كتابه ببلاغ للنائب العام يتهم فيه الرئيس أنور السادات بإساءة استعمال سلطاته وهو الكتاب الذي أدى إلى محاكمته غيابيا في عهد محمد حسني مبارك عام 1983 بتهمة إفشاء أسرار عسكرية وحكم عليه بالسجن ثلاثة سنوات مع الأشغال الشاقة ووضعت أملاكه تحت الحراسة، كما تم حرمانه من التمثيل القانونى وتجريده من حقوقه السياسية.
أمر الرئيس أنور السادات بالتخلص من جميع الصور التى يظهر فيها الفريق الشاذلى إلى جواره داخل غرفة العمليات، واستبدالها بصور يظهر فيها اللواء محمد عبدالغني الجمسى رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة في ذلك الوقت، في محاولة منه بمحو أى دليل يشير إلى دور الفريق الشاذلي في معركة العبور.

شهادة المشير الجمسي

يقول المشير محمد عبد الغني الجمسي رئيس هيئة العمليات أثناء حرب أكتوبر في مذكراته (مذكرات الجمسي / حرب أكتوبر 1973) صفحة 421
«لقد عاصرت الفريق الشاذلي خلال الحرب، وقام بزيارة الجبهة أكثر من مرة، وكان بين القوات في سيناء في بعض هذه الزيارات. وأقرر أنه عندما عاد من الجبهة يوم 20 أكتوبر لم يكن منهاراً، كما وصفه الرئيس السادات في مذكراته (البحث عن الذات صفحة 348) بعد الحرب. لا أقول ذلك دفاعاً عن الفريق الشاذلي لهدف أو مصلحة، ولا مضاداً للرئيس السادات لهدف أو مصلحة، ولكنها الحقيقة أقولها للتاريخ.»

عودته إلى مصر ودخوله السجن الحربي

في مساء 14 مارس 1992، عاد الفريق الشاذلي إلى مصر بعد أن قضى 14 سنة منفياً في الجزائر منها سنتان في عهد الرئيس أنور السادات و12 سنة في عهد الرئيس حسني مبارك، قبض عليه فور وصوله مطار القاهرة وصودرت منه جميع الأوسمة والنياشين وأجبر على قضاء مدة الحكم عليه بالسجن الحربي التابع للجيش الثالث الميداني لأن الأحكام العسكرية ليس بها استئناف ولا نقض ولا تسقط بالتقادم، وجهت للفريق للشاذلي تهمتان:
  • التهمة الأولى : هي نشر كتاب بدون موافقة مسبقة عليه واعترف الفريق الشاذلي بإرتكابها.
  • التهمة الثانية : هي إفشاء أسرار عسكرية في كتابه وأنكر الشاذلي صحة هذه التهمة الأخيرة بشدة، بدعوى أن تلك الأسرار المزعومة كانت أسرارًا حكومية وليست أسرارًا عسكرية. طالب الفريق الشاذلي أن تتم إعادة محاكمته وبشكل علني إلا أن طلبه قد رفض .
في بداية أكتوبر 1993 تم الإفراج عن الفريق الشاذلي عن طريق عفو عام، وبعد خروجه عاش منعزلاً بعيدًا عن الناس. وعاد لقريته وخصص أرضا كوقف للإنفاق على مسجد، وعاش كخبير إستراتيجي يكتب ويحلل كل ما يدور على الساحة.

تجاهله

الفريق الشاذلي هو الوحيد من قادة حرب أكتوبر الذي لم يتم تكريمه بأى نوع من أنواع التكريم، وتم تجاهله في الإحتفاليات التي أقامها مجلس الشعب المصري لقادة حرب أكتوبر والتي سلمهم خلالها الرئيس أنور السادات النياشين والأوسمة كما ذكر هو بنفسه في كتابه مذكرات حرب أكتوبر.
تم منحه نجمة الشرف سراً أثناء عمله كسفير في إنجلترا من قبل مندوب من الرئيس أنور السادات
عانى الفريق الشاذلي من النسيان المتعمد في فتره الرئيس حسني مبارك حيث ظل الإعلام يروج لأحادية النصر بالضربة الجوية الأولى وكان الشاذلي ضحية من ضحايا النسيان كما حدث للجمسي والمشير محمد علي فهمي و الفريق أول فؤاد ذكري, ونُزعت صورته من بانوراما حرب أكتوبر وتم إيقاف معاشه المستحق عن نجمة الشرف العسكرية وعاش العشرين عاماً الأخيرة من حياته على إيرادات قطعة أرض ورثها عن أبيه.

ظهوره في الإعلام

ظهر الفريق الشاذلي في بعض القنوات الفضائية كمحلل عسكري وفي البرامج التي تناولت حرب أكتوبر في أواخر تسعينات القرن الماضي. وتم الاستعانة بالفريق الشاذلي كمحلل عسكري بقناة (عين) التابعة للشبكة راديو وتلفزيون العرب عام 2003أثناء حرب العراق وغزوها من القوات الأمريكية حتي إن المشاهدين كانوا يستمتعون بسلاسته في الشرح العسكري دون الشعور بصعوبة التكنيك والمصطلحات العسكرية.
أبرز ظهور إعلامي له كان على قناة الجزيرة في 6 فبراير 1999 في حلقات مطولة وصلت إلى 10 حلقات من برنامج شاهد على العصر معأحمد منصور.

وفاته

تُوفي الفريق سعد محمد الحسيني الشاذلي يوم الخميس 7 ربيع الأول1432 هـ الموافق في 10 فبراير / شباط 2011 م، بالمركز الطبي العالمي التابع للقوات المسلحة، عن عمر بلغ 89 عامًا قضاها في خدمة وطنه بكل كفاءة وأمانة وإخلاص، وقد جاءت وفاته في خضم ثورة 2011 في مصر وذلك بعد معاناة طويلة مع المرض، قام ثوار ميدان التحرير بأداء صلاة الغائب على روحه، وقد شيّع فيجنازة عسكرية وشعبية مهيبة حضرة آلاف الضباط والجنود من أفراد القوات المسلحة بعد صلاة الجمعة. وقد تقدم المشيعين الشيخ حافظ سلامة قائد المقاومة الشعبية في السويس إبان حرب أكتوبر. وكانت جنازته في نفس اليوم الذي أعلن فيه عمر سليمان تنحي الرئيس محمد حسني مبارك عن منصبه كرئيس للجمهورية.وقد صرحت نجلته شهدان الشاذلي بأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد أعاد إلى أسرة الفريق سعد الدين الشاذلي نجمة سيناء بعد اسبوعين من تنحي الرئيس محمد حسني مبارك.

التكريم والألقاب

ظل الفريق الشاذلي منسيأ لمدة 19 سنة بعد الإفراج عنه ولم يتم دعوته إلى أي نوع من الإحتفالات الخاصة بحرب أكتوبرلحين وفاته في خضم ثورة 25 يناير 2011.
  • بعد ثورة 25 يناير أعاد المجلس الأعلى للقوات المسلحة نجمة سيناء لأسرة الفريق الشاذلي عام 2011 بعد تنحي الرئيس محمد حسني مبارك بأسبوعين.
  • في 3 أكتوبر 2012 منحه الرئيس محمد مرسى قلادة النيل العظمى لدوره الكبير في حرب أكتوبر.
  • تم إنشاء طريق كبير للربط بين طريق القاهرة / الإسماعيلية الصحراوى بالطريق الدائرى يحمل اسم محور الفريق سعد الشاذلي.
  • تم تسميه اسم الفريق الشاذلي على إحدى الميادين بالغردقة (لدوره الكبير في صد إختراقات إسرائيل في منطقة البحر الأحمر).
  • تم تسمية اسم الفريق الشاذلي على إحدى دفعات الكلية الحربية والتي تضم الدفعات 109 حربية و67 بحرية و82 جوية و54 فنية عسكرية و44 دفاع جوي ومعهد فني وطلبة من عدد من البلاد العربية منها السودان والبحرين، بلغ عدد طلبة تلك الدفعة نحو 2400 طالب.
  • تم افتتاح مدرسة جديدة بإسم الفريق سعد الدين الشاذلى للتعليم الأساسي في الإسكندرية.
لقب الفريق الشاذلي بعدة ألقاب من قبل العرب والأجانب ومنها:
  • دايان مصر، نسبة لموشيه دايان وزير الدفاع الإسرائيلي في حرب 1967 / 1973.
  • رومل العرب، نسبة للقائد العسكري الألماني إثناء الحرب العالمية الثانية إرفين رومل.
  • مهندس حرب أكتوبر.

مؤلفاته

حرب أكتوبركتب الفريق الشاذلي 4 كتب متنوعة لم ينشر في مصر منها سوى كتاب واحد هو:
أما باقي الكتب فقد صدرت جميعاً في الجزائر.
  • الخيار العسكري العربي (1983).
  • الحرب الصليبية الثامنة (في جزئين).
  • أربع سنوات في السلك الدبلوماسي.
وقام بعمل كتيب تم توزيعه على الجنود و الضباط خلال الحرب لرفع الروح المعنوية و القتالية وهو :
  • كتيب عقيدتنا الدينية طريقنا إلى النصر
وفي الذكرى الأولى لوفاة الفريق الشاذلي صدر كتاب عن قصة حياته للمؤلف مصطفى عبيد :


Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More