..

آثار الحكم المصري في جزيرة كريت

كادت اليونان خلال فترة من فترات تاريخها أن تتحول إلى بلد إسلامي، وذلك بالقياس إلى الفتح العثماني الذي استقر في المنطقة فترة غير قصيرة هي التي تركت آثارها اليوم من خلال آلاف الصروح الحضارية الإسلامية من مساجد ومعمار وخلافه على أرض اليونان وقرابة المليون مسلم يوناني يعيشون على أراضيهم الأصلية في تركيا شمال البلد. إلا أن انتفاضات اليونانيين ضد الحكم التركي سرعان ما ستعيد اليونان إلى حضيرة الأرثوذوكسية ولكن دون أن يشمل ذلك كل أرضيه ومنها جزيرة كريت التي دخلت في الواقع تحت الحكم المصري لحقبة طويلة قبل أن تتحول إلى أرض يونانية.
حيث كان السلطان العثماني أمام عجزه على مواجهة الحالة بعد انفجار الثورة اليونانية عام 1821، قد طلب مساعدة حاكم مصر محمد علي باشا الذي حل بالجزيرة في مارس عام 1822 .
وعندما حُددت في بروتوكول لندن (3 فبراير 1830) حدود الدولة اليونانية الحديثة التكوين، بقت جزيرة كريت مع ذلك خارجها، حيث تنازل السلطان العثماني عن الجزيرة رسمياً لمحمد علي مكافأة له على خدماته، وأخذ عليها ثمناً شكلياً بلغ في حينها 25 مليون قرش؛ وتم التصديق على هذه الاتفاقية عام 1833 بعد الحرب التركية المصرية بمعاهدة كيوتاهياس.
انتهت الحرب التركية المصرية الثانية عام 1839 بتدخل وتوسط القوى الكبرى، بمعاهدة لندن عام 1940 التي بواسطتها تم حصّر محمد علي وحٌدد حكمه داخل مصر بالرغم من انتصاراته الساحقة. وفقد مع ممتلكاته الآخرى جزيرة كريت التي عادت إلى السيادة التركية وعٌيّن مصطفى باشا بفرمان سلطاني حاكماً لجزيرة كريت.
تنبأ محمد علي بقيمة جزيرة كريت كمحطة بحرية شمال مدينة الإسكندرية وكمصدر للثروة الطبيعية ضمن مخططاته الاستراتيجية العامة وحلوله مكان السلطان العثمانى، لهذا السبب ولتفادي التدخلات الخارجية والتعقيدات الدولية قام مباشرة باتخاد الاجراءات اللازمة لتأمين الهدوء الداخلي وعيّن حاكما سياسيا مدنيا للجزيرة هو مصطفى ناييليس باشا، بينما كلف الحائز على ثقته عثمان نور الدين بي بالحكم العسكرى.
لبس الحكم المصرّي في كريت منذ البداية قناع العدل والنزاهة وحرص على
المساواة بين المسلمين والمسيحيين وأصدر عفوا عاماً، ودعى جميع سكان جزيرة كريت إلى تسليم السلاح، والعيش من الآن فصاعداً في سلام ومساواة .
كثير من المسلمين لم يستطيعوا الامتثال لأوامر مصطفى نايلييس باشا الصارمة ولم يتقبلوا الواقع الجديد، فقاموا ببيع ممتلكاتهم وهاجروا إلى آسيا الوسطى ولكن حتى الكثير من الكريتيين الذين رفضوا تسليم أسلحتهم غادروا جزيرة كريت وأقاموا في اليونان الأخرى (اليونان الأم).
وقد طالبت البطرياركية في رسالة مؤرخة (يناير عام 1831) الكريتيين بألا يغادروا موطنهم، مؤكدة على أن محمد علي في مصر سيقوم بحمايتهم. وشرحت بأنه قد نظم مجلسان حاكمان لحكم الجزيرة يطلق عليهما اسم "سوراديس" أحدهما في مدينة إيراكليون والآخر في مدينة خانيا، بينما اثنان آخران أصغر، نظما لمدينة ريثمنوس ومدينة سفاكيا. وشارك في هذه المجالس عدا المسؤولين الأتراك، أيضاً مسيحي واحد ومسلم واحد من كل منطقة ريفية. إلا أن المؤرخ ديتوراكيس، كان يرى أن هذه المجالس كانت خدعة كبيرة حيث إن التمثيل المسيحي كان دائماً أقلية ليس لها القدرة على أن تُملي مواقفها ومقتراحتها.
قام محمد علي بعمل إحصاء للسكان (1832-1833) واهتم بتطوير وتنمية صناعة الزيت وصناعة الصابون واستبدال معاصر الزيتون القديمة بجديدة بمواصفات أوروبية. كما قام باجراءات توفير واقتصاد مادة ( الترتير) ـ وهي بقايا عصرالعنب ـ في مدينتي ريثمنوس وخانيّا، الذي كان يستعمل لصباغة الطرابيش واللباّد الذي كانت مصر تستمده من مدينة إيراكليون. وقام بتنمية صناعة الصباغة التي كانت تٌستخرج مادتها الأولية من أشجار البلوط، واهتم بتنمية صناعة الأكياس من شعر الماعز، ومنع تصدير شعر الماعز حتى لا تضيع المادة الأولية لصناعة الأكياس، واهتم بتنمية صناعة النسيج والجلود والآجر.
كما شجع على صيد الاسفنج في ميناء مدينة إراكليون بجعل الضريبة 19% فقط إضافة إلى الضريبة الجمركية 3% وشجع كذلك على صيد المرجان في منطقة سيتياس، خصوصاً في جزيرة بسيّرا، واكتشف الفحم في قرى باليولوترا ومرتيوس وأجيوس وفاسيليو في مدينة ريثمنوس، وكيونوريو في مدينة إيراكليون، بشرط أن يستبدل بهذه الطريقة الفحم الذي تستورده مصر من أنجلترا.
واهتم بالأمن في الجزيرة وبالصحة، بغض النظر عن ديانة المواطنين. وأنشأ في مدينة خانيّا مدرسة إسلامية ومدرسة مسيحية، وفي مدينة إراكليون مدرسة إسلامية حكومية ومدرسة إسلامية دينية، وحافظ على المدرستين المسيحيتين في مدينة ريثمنوس اللتين أنشأهما وقام المواطنون المسيحيون بصيانتهما.
كما اهتم محمد علي بإصلاح الطرق خاصّة تلك الطرق التي كانت تقود إلى الموانئ وتنظيف وتعميق ميناء إراكليون الذي أصيب بأضرار من جراء عاصفة قوية. وأبدى اهتماماً كبيراً بالأعمال التي أجريت في ميناء سودا على أمل أن يصبح أكبر ميناء في الجزيرة ليتمكن من استقبال عدد أكبر من سفن الأسطول المصري.
من ناحية أخرى عمل على إعادة إعمار ميناء خانيّا، وشيد المنارة الوحيدة التي لا تزال موجودة حتى الآن، وقام بتوسيع ميناء ريثمنوس، وشيد المنارة الموجودة حتى اليوم على بقايا أنقاض المنارة القديمة ( توجد على جدارها كتابة منقوشة تحمل تاريخ 1833 ـ1834 ). والمنارات التي سَلمت حتى اليوم في مدينتي خانيّا وريثمنوس هي المنارات الوحيدة التي سَلمت في حوض البحر الأبيض المتوسط، وتحمل طابع الفن المعماري الإسلامي.
وهو قد بنى جسرا مائيا كبيرا في أجياس إيريني التي تبعد كيلومترات قليلة جنوب مدينة إراكليون. كما استعمل محمد علي مهندسين أوروبيين أيضاً، ربما كانوا فرنسيين، لتقديم الارشادات والتوجيهات، ومن مجموع المباني التي شيدت في حقبة الحكم المصري توجد مبان قليلة منها فقط، معروفة اليوم.
وكان محمد علي باشا يشعر بأنه يعيش في بلده في اليونان، لأنه كما هو معروف قد ولد في مدينة كافالا اليونانية عام 1769. وكان الولد السابع عشر لحارس الحقول الريفية التركي الألباني ابراهيم آغا، وبعد أن قطع الأتراك رأس والده، تبناه رئيس حصن كافالا. أرسل في عام 1778 إلى مصر، على رأس قوات تعدادها أربعة الاف ألباني ليحارب ضد الفرنسيين في حملة نابليون بونابرت .
هناك تمكن من أن يضم إليه المماليك وأن يعلن حاكماً على مصر عام 1805. حكم مصر كحاكم أوحد مطلق وأعتبر أرض مصر ملكية خاصة له.
وكان ذكاؤه الحاد وعبقريته ونشاطه الذي كان لا مثيل له جعل الكثيرمن المؤرخين يطلقون عليه اسم "العظيم " وأطلق عليه آخرون اسم "آخر فرعون لمصر". وقد ساعد العثمانيين على قمع الثورة العربية (1811-1849)، وقمع الثورة في اليونان (1824-1827). حيث عَيّن على رأس الحملة ابراهيم باشا واحتل السودان لحسابه (1820-1823) .

0 التعليقات:

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More