فترة عامرة بالأحداث السياسية حيث شهدت سيطرة الدولة العامرية ، ثم عصر الفتنة ، وسقوط الخلافة الأُمَوية ، وقيام دول الطوائف ، وتفاقم الخطر النصراني ، وتعاظم دور اليهود ، واندلاع النزاعات العرقية والطائفية وجميعها أحداث أثرت بلا شك في خبرته التاريخية وتركت أثاراً واضحة في ثنايا أعماله ؛ حيث رصد وبدقة مرحلة الفتن والاضطرابات المتتالية في الأندلس فصور الوضع العام بأن الرعية ” عدموا الراعي العَنُوف منذ حِقَب ، فنبذوا السلاح وكلِفوا بالتّرْقيح” ، ونافسوا في النّشَبِ ، وعطَّلوا الجهاد ، وقعدوا فوق الآرائك مقعد الجبابرة ” ، وتولى الأمر ” جماعة من الأغمار، كانوا عصابةً يحل بها الفَتاءُ ويذهب بها العُجْبُ” .
وكان الوضع في الأندلس في تلك الفترة قد تغير تغيراً جذرياً ؛ فبعدما كانت الخلافة تجمع بين السلطتين الزمنية والروحية ، جاء الحاجب المنصور ابن أبي عامر ( 370-392هـ / 980 – 1001 م ) وأبناؤه من بعده
فانتزعوا منها السلطة الزمنية وكانت وفاة عبد الملك (المُظَفَّر) ابن المنصور العامري فاتحة لفترة مضطربة من تاريخ الأندلس بدأت بعبد الرحمن (شنجول) الذي ” ساء تصرفه وأنفق الأموال في غير وجهها ، ونُسِب إليه أباطيل القول والفعل ، واستعان بالعسكر للتحرر من نفوذ العامة وانتهى الأمر بقتله ففتح على الأندلس باباً لم يُسَد إلا بانهيار الدولة كلها ، وكان ذلك إيذاناً ببداية نهاية دولة الإسلام في الأندلس .
أن تلك الأزمة ” جديرة بأن تشحذ العقول الذكية ، وتنتج مفكرين مخلصين يصطبغ تفكيرهم بالمرارة ويحاولون البحث عن علة ذلك الداء الذي أوتى منه بلدهم ومحاولة تكوين مشروع سياسي اقتصادي اجتماعي” ومن هنا ظهر هذا الجيل من أبناء قُرْطُبَة من أمثال ابن حَيَّان وابن حَزْم ، وابن شُهَيْد ممن حاول كل منهم في ميدان علمه تقصى الحقيقة والبحث عن علاج لمحنة بلدهم ولذا نلمح في كتابات ابن حَيَّان التاريخية شيوع روح النقد لديه ؛ فنراه يعبر عن رأيه وبوضوح ؛ ففي أيام دولة الخليفة ” سليمان المستعين ” وبداية ” الفتنة البربرية ” يذكر أنها كانت : ” شِداداً نَكِدات صعاباً مَشئومات ، كريهات المبدأ والفاتحة ، قبيحة المُنْتَهَى والخاتمة … ”
ويشير ابن حَيَّان في نصوصه إلى النهب الذي حدث بقُرْطُبَة ، واجتياح التدمير بلا حساب أحياء قُرْطُبَة وهو ما كان له أبلغ الأثر في تكوين فكره السياسي ، وانعكس ذلك على كتاباته التي اتسمت بالحدة والحزن فقد كان يعتقد بأن الأندلس ينبغي أن تحتل مكان الصدارة في العالم الإسلامي ، وتشيع هذه الروح في كل كتاباته
وقد زاد من اضطراب الأوضاع في الأندلس – لاسيما قُرْطُبَة – اقتحام البربر لها ونشر الدمار بها ، ودفعت قُرْطُبَة ثمن مقاومتها أنهارا من الدماء ، وقتل الكثير من أهلها ودخلت البلاد بعدها في سلسلة من الأحداث واضطربت الأوضاع ، واستمرت النزاعات التي شارك فيها البربر والصقالبة وأهل قُرْطُبَة أنفسهم ، الأمر الذي جعل ابن حَيَّان يكن للبربر كراهية شديدة تشيع على ظاهر صفحات تاريخه ، فهو يندد بقسوتهم وحقدهم الدفين على الدولة الأندلسية ، ورغبتهم في نقض بناء الحضارة الأندلسية منذ أول لحظة يتهيأ لهم فيها ذلك وقد تتبع ابن حَيَّان تلك الأحداث وفى تفصيل دقيق .
وانتهت هذه المرحلة في سنة 417 هـ / 1026 م ، حين أجمع أهل قُرْطُبَة برئاسة الوزير أبو الحَزْم بن جَهْوَر على رد الأمر إلى بني أُمَيّة واتفقوا على مبايعة هشام بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الناصر وتلقب بالمستظهر وبعد ذلك خرج عليه ، محمد بن عبد الملك (المُسْتَكْفي ) سنة 414 هـ / 1023 م ، ويذكر ابن حَيَّان عن الخليفة المستكفى قوله : ” ولم يكن هذا المستكفى من هذا الأمر في وِرْدٍ ولا صَدَر ، وإنما أرسله الله تعالى على أهل قُرْطُبَة محنة وبلية ” وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على متابعة ابن حَيَّان للأحداث ورصدها بصورة شبه يومية وبطريقة ناقدة .
ونتيجة لتلك الأحداث تقلصت بالضرورة قوة السُلطة في الداخل وهو ما انعكس أيضاً على فكر ابن حَيَّان؛ فحاول مثل غيره من المؤرخين النابهين من أمثال ابن حَزْم أن يعمل على تحقيق وحدة الأندلس وتقوية سلطة الخلافة من جديد فنراه يعتد “بالجماعة” أو وحدة الأندلس ؛ ولذا كان يستخدم كلمة الجماعة مراراً وتكراراً فيقول : ” سلطان الجماعة ” و” إمام الجماعة ” و”أمير الجماعة ” .
وبينما كان البناء السياسي للأندلس يتصدع شيئاً فشيئاً أثناء فترة الصراع على الخلافة بين من ادعاها من أفراد البيت الأُمَوي ومن أعقبوهم من بني حَمّود انهار البناء السياسي جملة ، وضاعت الوحدة ، وتفرق أمر الجماعة وفي تلك الأثناء اجتمع شيوخ قُرْطُبَة والوزراء برئاسة أبي الحزم بن جَهْوَر واتفقوا على خلع المُعْتَد بالله – آخر خلفاء بني أُمَيّة – وإبطال رسم الخلافة جملة ونودي في الأسواق والأرباض ؛ ألا يبقى بقُرْطُبَة أحد من بني أُمَيّة ، وألا يكنفهم أحد من أهل المدينة ، وانتهى بذلك أمر بني أُمَيّة في الأندلس وزالت خلافتهم وانقطعت الدعوة لهم وأثرت تلك الواقعة تأثيرا بالغاً في فكر ابن حَيَّان ، وجعلته يتابع مصير دويلات الطوائف ، ويرصد العديد من الوقائع ، وركز على انفراط وحدة الأندلس وتفرق ملكها إلى دويلات طائفية واقتسامهم ألقاب الخلافة ؛ فوصفهم ابن حَيَّان بأنهم : ” أُمراء الفرقة الهمل الذين هم ما بين فشل وَوَكَل”
أما في قُرْطُبَة فقد اجتمع كبار أهلها بعد إلغاء الخلافة ، وأسندوا الأمر إلى ابن جَهْوَر ، وكان مشهوراً عندهم بجدارته وكفاءته لتقلد هذا المنصب وابتكر لأهل قُرْطُبَة نظاماً جديداً للحكم قائماً على الشورى ، ورأى ابن حَيَّان أنه لم يستبد بالسلطة كما استبد غيره من ملوك الطوائف ، وإنما كون مجلساً للحكم من شيوخ أهل قُرْطُبَة وانتخب أميناً لهذا المجلس ، وكان لا يصرف أمراً إلا بعد الرجوع إلى جماعة الشيوخ هؤلاء وكان من جراء ذلك أن اختار ابن حَيَّان المقام في قُرْطُبَة في ظل الجَهاوِرَة لأنهم في نظره خير بيئة يستطيع فيها أن يسجل أحداث عصره ، وفيها استطاع أن يعبر عن سلبيات المجتمع الأندلسي خاصة بعد تمزق الأندلس على هذا النحو ، وقد انتقد ملوك الطوائف فى عصره خاصة في تربص بعضهم لبعض ، واستعانتهم بالنصارى لتنفيذ مخططاتهم .
وبصفة عامة – وكما يرى الدكتور محمود إسماعيل – أن ” الانتكاسات التاريخية في حياة الشعوب ليست شراً مستطيراً على طول الخط ؛ بل قد تسفر عن ايجابيات بصدد الفكر وتطوره ، إذ غالباً ما تفضي إلى استنفار النخبة المفكرة لاستقراء أسباب وعلل تلك الانتكاسات ”
وعلى الصعيد الاقتصادي وبعد انهيار وسقوط الخلافة حدثت الانتكاسة وعم الكساد الاقتصادي وتدهور العمران ، وحفل العصر بالأزمات إلى حد المجاعة وأفل نجم قُرْطُبَة عمرانياً وبشرياً ، وصور ابن حَيَّان الوضع قائلاً : “… وطمست أعلام قصر الزهراء ….. فطوى بخرابها بساط الدنيا وتغير حسنها ، إذ كانت جنة الأرض ،فعدا عليها قبل تمام المائة من كان أضعف قوة من فارة المسك ، وأوهن بنية من بعوضة النمروذ ، والله يسلط جنوده على من يشاء ، له العزة والجبروت ”
وتحولت المدن التجارية المزدهرة إلى قلاع وحصون عسكرية الأمر الذي لقي تنديد ابن حَيَّان ، ويشيع ذلك في صفحات كتابه ” المتين ” ومثال على ذلك ما أشار إليه في فطنة بالغة عن سوء الأحوال الاقتصادية نتيجة الوضع المتردي في بمدينة بَطَلْيَوْس نتيجة النزاع بين المعتضِد بن عَبَّاد والأَفْطَس ؛ فقال : ” بقيت بَطَلْيَوْس مدةً خالية الدكاكين والأسواق من استئصال القتل لأهلها في وقعة ابن عَبَّاد هذه بفتيان أغمارٍ إلا الشيوخ والكهول الذين أصيبوا يومئذ . فاستدللت بذلك على فشو المصيبة فتوقع برؤية ثاقبة عما سيحل بعد ذلك من كوارث اقتصادية .
وانتشرت في الأندلس ” الكُوَر المجندة ” نتيجة لكثرة الحروب الأهلية، فنزل جند دمشق في كورة إلْبِيرَة وجند حَمْص في كورة إشبِيلِيّة وجند الأردن في كورة مالطة ، وجند قِنَّسْرِين في كورة باجة وبعضهم بكورة تُدْمِير فهذه منازل العرب الشَّاميين، وبقي العرب والبربر والبلديون شركاءهم ، كما تعاظم “إقطاع التجار” نتيجة شرائهم بعض إقطاعات الخلفاء والولاة . وفي ظل هذا الحكم اضطرب الوضع الاقتصادي ، واشتد الغلاء وانتشرت الأوبئة ، وعمت الكوارث ، وانعدم الاستقرار والأمن .
ولجأ الملوك من أجل إرضاء نزواتهم وتحقيق لذاتهم إلى إثقال كاهل رعاياهم بالضرائب فانعكس ذلك الوضع على كتابات ابن حَيَّان فوصف ذلك الوضع المتردي في مرارة واضحة بقوله ” فما أقول فى أرض فسد ملحها الذى هو المصلح لجميع أغذيتها ؟ هل هى إلا مشفية على بوارها واستئصالها ؟ ولقد طمى العجب من أفعال هؤلاء الأمراء … أمور لو تدبرها حكيم إذن لنهى وهبب ما استطاعا
وعلى الصعيد الاجتماعي شهد المجتمع الأندلسي في ظل الخلافة والحِجابة مرحلة المزج والانصهار بين العرقيات المتنوعة ليحدث نوع من التجانس لم تشهده الأندلس من قبل ؛ إلا أن السخائم العرقية والإقليمية عادت مرة أخرى لتؤثر سلبياً في هذا التجانس، ولتمزق وحدة الأندلس من جديد بظهور النزعة العنصرية ؛ ولذا لم يغب عن ابن حَيَّان أيضاً أن يعبر عن تلك النزعة في الأندلس في تلك الفترة وذلك من خلال حديثه عن اجتماع خازني بيت المال في عهد الأمير محمد ، وهما ” عبد الله بن عثمان بن بسيل ، ومحمد بن وليد بن غانم ” واستدعى الأمر أن يكتب ابن غانم كتاباً قدم نفسه فيه ، فما كان من ابن بسيل إلا أن قام له : ” والله لا أطبع كتاباً تتقدمني أنت فيه ، وأنا شامي وأنت بلدي ”
ويشير أيضاً إلى الفتنة بين اليمية والمضرية فقال : ” وكان ابتداء فتنة أهل الجزيرة وانبعاثها بالمعصية بين اليمانية والمضرية أن أطلق بعضهم على بعض الغارات واستحلوا الحرمات وتخلقوا بأخلاق الجاهلية ، واتخذوا الحصون والمعاقل المنيعة فارتقوا اليها وأذلوا البسائط ”
وقد كانت هناك طبقة الأُمراء والحكام وذوو الثراء وأصحاب الوظائف الكبرى ، وكانوا يمتلكون ثروات طائلة تمثلت في الضياع الواسعة ، والقصور الخاصة ، وتفننوا في صنوف من البذخ والناظر إلى روايات ابن حَيَّان يجد أن الغالب عليها تصويره مثالب الطبقة الحاكمة ، ولم يغب عنه تصرفات الحكام وشغفهم بالبناء إلى حد الإسراف والبذخ ويتضح هذا ـ فيما نقله عن معاوية بن هشام ـ عند ذكره لقيام الأمير محمد بتحسين قصر الخلافة فيقول : أنه بلغ من تحُسَينه إياه مبلغاً ” تَوَفَّتْ به الكمال ، واكتسبت الجمال ، فشفيت به أدواء النفوس ، وضرب بحسنها المثل ”
كما رصد بن حَيَّان انحراف الحُجاب والوزراء ، واستطاع أن يلقي الضوء حول طبيعة حياة الأمراء من خلال المعايشة ، وقد أشار إلى ما أصاب أهل الأندلس من نفاق وقلة وفاء وميل مع من يبقى في المنصب ، كما لم يغب عنه أن يصور بعض تجاوزات الولاة وظلمهم كما صور دور الجواري في بلاط حكام الأندلس ، وانتقد ما كان يقمن به من دسائس وهذه الرؤية النقدية ما كانت لتحدث لولا ظروف عصره التي دفعته إلى ذكر ما وصل إليه حال الأندلس من انقسام وتفكك
ونراه لا يغفل الإشارة إلى حال ” مشيخة الشورى ” أواخر عهد الخلافة الأُمَوية بالأندلس ، ويتضح هذا عند حديثه عن الخليفة هشام المُعْتَد الذي يقول عنه : ” وزاد فى رزق مشيخة الشورى من مال العين ، ففرض لكل واحد خمسة عشر ديناراً مشاهرة ، فقبلوا ذلك على خبث أصله ، وتساهلوا فى أكل ما لم يستطبه فقيه قبلهم ”
وكانت هناك طبقة أخرى تعاني ألوان العسف والتنكيل ، ويطلق عليهم لقب العوام وهم الفئة المهمشة في التاريخ ولا يأتي ذكرهم في الغالب الا عند التأريخ للكوارث كالمجاعات والأوبئة ، أو من خلال ذكر حركات المعارضة التي جري تهميشها بالمثل ودمغها بأبشع التهم والنعوت وتتكون هذه الطبقة من الفلاحين في الريف والحرفيين والعمال في المدن وأغلبها من البربر أو المولدين أو الموالي وكان على هذه الطبقة أن تتحمل أعباء ضرائب باهظة كانت تُفرَض عليها وكانت تقوم بينهم وبين الدولة هوة سحيقة من سوء الظن وعدم الثقة وكان لهذا التدني أثره على ابن حَيَّان في معارضته لهذه المظاهر في كتبه وتنديده بفاعليها ويقول واصفاً أحد هؤلاء المغالين في جمع الضرائب : ” ونعي إلينا فلان، وكان فظاً قاسياً ظنيناً جشعاً جباراً مستكبراً قليل الرحمة نزر الإسعاف زاهداً في اصطناع المعروف، أحد الجبابرة القاسطين على الرعية، المجترين على رد أحكام الشريعة وكان مهلكه – زعموا – من طاعونة طلعت عليه ببعض أطرافه، فتجاسر على قطعها بفرط جهالته، فمات معذباً في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد
تعددت مجالات المعرفة الاجتماعية والثقافية التي طرقها ابن حَيَّان عكست لنا ألواناً من الحياة الأندلسية الاجتماعية والثقافية ، ويعتبر تاريخه الكبير أدق وثيقة مفصلة للحياة الثقافية والفكرية للأندلس ؛ فنراه يرصد العديد من الظواهر الاجتماعية عندما يصور شرائح المجتمع بما فيها من صور الوشاية ، والذم ، والمكائد ، وفساد القضاة ” وقد انطبقت أرض الأندلس نفاقاً واستعرت خلافاً ذلك بإغفال من كان قبله لحسم من كان ينجم من قرن النفاق حتى تفاقم الأمر بعد تطاوله ، وتفاوت الشئ بعد قرب تداركه واستعجل شر عمر بن حفصون جرثومة النفاق وانتزى أكثر بلاد الأندس اقترانه .
ومن الأقوال التى ذكرها ابن حيان ، والدالة على وجود شهادات الزور فى الأندلس ، حديثه عن ” محمد بن غالب ” من أهل إستجة ، كان قد طلب من الأمير عبد الله بناء حصن بقرية ، شنت طرس ” ، وهدفه من ذلك حماية الطريق ، ومنع المفسدين وقطاع الطرق من إلحاق الأذى بالمسلمين ، وعندما تم بناء الحصن حسده ، بنو خلدون وبنو الحجاج ” وقامت الحرب بينهما ، وادعى بنو حجاج على إثر هذه الحرب أن محمد بن غالب أغتال رجلاً من قرابتهم ….. واستدعوا عليه الشهادات المزورة .
كما عكس الصراع الذي كان يدور بين الفقهاء والخليفة وكيف أن الخليفة كان يكره أن يكون القاضي قوياً ، وهو ما صوره تحت عنوان ” نوادر من أخبار قضاة الأمير عبد الرحمن “. ومن هذه النوادر أيضاً نستشف النفوذ القوي الذي كان يتمتع به الفقهاء في الدولة ، والدليل على ذلك أن الأمير عبد الرحمن قلما يولي قاضياً إلا عن مشورة يَحْيىَّ بن يَحْيىَّ اللَّيثِي وفي ذلك يقول ابن حَيَّان : ” وغلب يَحْيىَّ بن يَحْيىَّ جميعهم على رأي الأمير عبد الرحمن ، وألوى بإيثاره ، فصار يلتزم من إعظامه وتكريمه وتنفيذ أموره ما يلتزم الوالد لأبيه ، فلا يستقضي قاضيا ، ولا يعقد عقدا ، ولا يمضي في الديانة أمرا ، إلا عن رأيه وبعد مشورته ” .
كما صور لنا بخل الأمير عبد الله بن محمد ، وشيوع حوادث الرشوة بالغصب في عهده ، كما صور بعض معايب عبد الرحمن الناصر وتبرز استهتاره باللذات وتغليظ العقوبات ، وتهوين الدماء ، والعبث في الرعية. ونرى ذلك أيضاً عندما يتحدث عن النسـاء وشغف الأمير عبد الرحمن بهن فيقول : ” كان الأمير عبد الرحمن مُستهتراً بالنساء ، شديد الميل إليهن ، والإعجاب بهن ، والبذل لهن ، والاستكثار منهن ، والهوى فيهن ” .
كما سجل مظاهر الاحتفال بالأعياد والمناسبات وكيف كان الشعراء والخطباء في هذه الاحتفالات ” تتناغى فيما ترتجل من خطبها وتنشد من أشعارها فتكثر وتجيد ” ، أما الاحتفال الرسمي من قِبَل الخلفاء بالأعياد فقد أطنب في وصفها ابن حيان .
ولم يغب عنه أن يعبر عن مظاهر البذخ التي كانت تتسم بها حفلات استقبال الحكام الأندلسيين لمن يفد عليهم ، ولذلك يقول عن يوم استقبال الخليفة الحكم المستنصر لجعفر بن على ومن معه إنه : “أحد الأيام العقم بقُرْطُبَة في اكتمال حسنة وجلالة قدره ، خلد حديثه زمناً في أهلها ، قاضياً من عجب الجلالة ، وكل شيئاً فإلى انقضاء إلا إله الأرض والسماء تعالى جده.
ومن الصور الاجتماعية التى اهتم ابن حيان بتسجيلها فى تاريخه حفلات المجون والتبذير للأمراء والخلفاء والوزراء ؛ منها على سبيل المثال حادثة احتفال المأمون بن ذى النون بإعذار حفيده يحيى ، تلك الحادثة التى احتلت عدداً غير قليل من الصفحات، يقول فى الإعداد لها : ”
وأمر ـ المأمون ـ بالاستكثار من الطهاة والاتقاء للقدور ، والإتراع للجفان ، والصلة لأيام الطعام ، والمشاكلة بين مقادير الأخباز والآدام ، والإغراب فى صنعة ألوانها ، مع شياب أباريقها بالطيوب الزكية ، والقران فيها بين الأضداد المخالفة ما بين حار وبارد ، وحلو وحامض ،والمماثلة بين رائق أشخاصها ، وبين ما تودع فيها من نفائس صحافها ……… ” .
وكان المدعوون إلى هذه الاحتفالات التى استمرت أياما أشتاتا من الناس من صفوة وعامة , وقد لقى الجميع من الاحتفاء بهم والتكريم لذواتهم ما يمكن أن يشابه ترتيب إدارات المراسم والتشريفات بالقصور الملكية ووصف ابن حيان طائفة القضاة على المائدة فى غرفة أسرف وفى وصفها ، فإذا انتهوا من الطعام يكمل الجانب التالى من رحلة الدعوة على هذا النحو : ”
ولما فرغت تلك الطائفة جئ بهم إلى المجلس المرسوم لوضوئهم ، وقد فرش ايضا بوطاء الوشى الرقوم بالذهب ، وعلقت فيه ستور مثقلة مماثلة …… ثم نقلوا إلى مجلس التطييب ، أفخم تلك المجالس ، وهو المجلس المطل على النهر ، العالى البناء ، السامى السناء ، فشرع فى تطييبهم فى مجامر الفضة البديعة بفلق العود الهندى ، المشوبة بقطع العنبر الفستقى ، بعد أن نديت أعراض ثيابهم بشابيب الماء الورد الجورى ، يصب فوق رؤوسهم من أوانى الزجاج المجدود ، وفياشات البلور المحفورة “.
والذي يعنينا من هذا النص أمور كثيرة ، من أهمها الإسراف ، والذى يتابع القصة بأكملها حسبما رواها بتفصيلاتها ومجالس القصف فيها وإنشاد الشعر فى مناسبتها وما قد خلعه الأمير عليهم برغم تدنى أشعارهم ، كل ذلك كان هدفا من أهداف أبى حيان فى تعرية ملوك الطوائف الذين يقتلون المال والبشر ، ويقاتل بعضهم بعضاً والعدو متربص بهم ، متحفز على أبوابهم .
وكشف ابن حيان عن دور العنصر النسائى فى بلاد الأندلس ، مثلما صور ما كانت تقوم به جارية الخليفة الناصر ” مرجان ” ، من حيل ضد السيدة فاطمة القرشية بنت أخى جده المنذر بن محمد الأمير ، وكان الناصر يقول لجاريته مرجان هذه : ” فاقتادينى إلى قصرك فإنى طوع يمينك وحبيس هواك ، وكان ذلك على إثر الحيلة التى دبرتها لصرفه عن ابنة عمه فاطمة القرشية ، ويقول ابن حيان عن هذه الجارية معتمداً فى ذلك على ما قاله القبشى : فتقدمت لديه جميع نسوانه حتى كانت كرائمه وحظاياه لا يصلن إلى مطالبهن ورغباتهن من الناصر لدين الله إلا بشفاعة مرجان لهن ، وتوسلهن بها لديه للطف منزلتها وغلبتها على قلبه …………
وصور لنا مكانة الجواري في المجتمع الأندلسي فيورد لنا قصة الجارية مرجان التي كانت من أحب الجواري إلى قلب الخليفة الناصر وأنجبت له ابنه الحكم ، فكانت أثيرة الخليفة لا يسلو بدون رؤيتها ولا يكتم علها سراً ، وإذا مرض حُمِل إلى بيتها .
وقد أمدنا ابن حيان بسيل من النصوص ، على جانب كبير من الأهمية وتكشف النقاب عن الوضعية الاجتماعية لعدد كبير من فئات المجتمع الأندلسي ومنهم على سبيل المثال : الفقهاء حيث أماط اللثام عن النفوذ الاجتماعي – والسياسي بالطبع – للفقهاء ، وكيف كان الأمراء والخلفاء يخشون تقلب الفقهاء عليهم مثلما أورد فى ما نقله من كتاب الاحتفال ما يشير إلى أن الأمير عبد الرحمن بن الحكم كان يكره تألب الفقهاء عليه …… ويقلق منهم ويسميهم سلسلة السوء ” .
وابن حيان لا يغفل أيضاً ذكر الآثار المترتبة على النواحى السياسية من إصابة المؤدبين وكساد الناحية التعليمية للصبيان والمؤدبين ،هذا فضلاً عما تكشف عنه روايته من قتل المغنيين والطنبوريين ، وهذا يشير إلى ألوان البذخ واللهو فى الأندلس فى ” فترة الفتنة ” .
واستطاعت روايات ابن حيان التاريخية أن تكشف عن إزدواجية الشخصية الأندلسية ، وذلك عند حديثه عن ” عبدالله بن عاصم ” صاحب الشرطة بقرطبة ، على عهد الأمير محمد ، الذى مر به ، يوما فتى حسن الشارة يترنح سكراً ، فأمر بأخذه ، فوجدت به رائحة الشرب ، فأمر بجلده ، فلما جُرد للجلد أقبل على ابن عاصم ، فقال له : ناشدتك الله ، من الذى يقول :
إذا عاب شرب الخمر فى الدهر عائب فلا ذاقها من كان يوما يعيبها
فقال له ابن عاصم : أنا ، وأستغفر الله منه ، فقال له الفتى : فلا تستحيه عن وجهه حين تغرى بالشرب وتحض عليه ، ثم تكشف عنه وتعاقب فيه ؟ فأفحمه ودرأ الحد عنه .
وما أكثر ما ترد فى ثنايا تاريخ ابن حيان ملاحظات وتعليقات نفذ بها إلى الكشف عن العيوب الدفينة فى المجتمع الأندلسي ، هذه العيوب التى أدت شيئا فشيئاً إلى تحللها وتصدعها ، وكأنه السرطان الخفى يستشرى فى باطن جسد ظاهره الصحة والقوة . وهى عيوب بدأت منذ أيام الحكم المستنصر ، ثم استفحل داؤها على عهد الدولة العامرية . غير أن الأمجاد العسكرية والقوة الظاهرية كانت تلقى عليها حجابا كثيفا سترها عن الأنظار . لقد كانت الفتنة تحثم تحت هذه القشرة الظاهرة من القوة والعظمة ، فلما تصدعت واجهة الدولة بعد وفاة المظفر بن المنصور بن أبى عامر إذا بهذا البنيان الشامخ ينهار فى لحظات ، وإذا ينير ان الفتنة المبيرة تندلع معلنة بداية نهاية الإسلام فى الأندلس .
كما رصد سوء الأحوال الاقتصادية المترتبة على المنازعات والحروب خاصة بين ملوك الطوائف ؛ فنراه يصف ما حدث بمدينة بَطَلْيَوْس نتيجة النزاع بين المعتضِد العَبّادي والأَفْطَس بأنها ” مصيبة ” ، حيث ” خلت الدكاكين والأسواق ” . ويصف القسوة التي استخدمت في جمع الضرائب غير الشرعية بمدينة شاطبة بكل أنواع العنف حتى تساقطت الرعية ولم تصمد في وجه هذا الظلم” . ومن هنا يتضح مدى اهتمام ابن حَيَّان برصد الجوانب الاقتصادية دون الاقتصار على الجانب السياسي فقط .
كما أرخ للوضعية الجبائية والمالية مثل ما أرخه حول الوضعية الجبائية والمالية للدولة العامرية ؛ فيقول ابن الخطيب في أعمال الأعلام : ” ذكر أبو مروان خلف رحمه الله في كتابه …المسمى بأخبار الدولة العامرية … فقال : ” كان مبلغ جباية آخر أيام المنصور أربعة آلاف دينار سوى رسوم المواريث بقُرْطُبَة وكور الأندلس كانت تجري على الأمانة وسوى مال السبي والمغانم على اتساعه في هذه وسوى ما يتصل به السلطان من المصادرات ومثل ذلك مما لا يرجع إلى قانون ، قال : وكانوا يعتدونها أربع بيوت تأخذ النفقات السلطانية منها على المشاهرة بالزيادة والنقصان ما بين الشهر والشهر مائتي ألف دينار إلى مائة وخمسين ألفا إلى أن يدخل شهر يونيه العجمي فيتضاعف فيه الإنفاق من اجل الاستعداد لغزو الصائفة فينتهي منه إلى خمسمائة ألف دينار وأكثر منها وما فضل من المال بعد جميع النفقات أحرزه السلطان في بيت ماله مع غير ذلك من ضروب استفاداته ، كما تعرض للحديث عن أهل البيوتات الذين اتخذوا الضياع الواسعة منهم بني حجاج الذين امتلكوا في ” باديتهم بالسند المنسوب اليهم على خمسة عشر ميلاً من الحاضرة “، وكذلك ” الإلهانيين والمعافريين وبني خلدون الإشبيليين اللذين اكتسبوا الضياع سواء بالبادية أو الحاضرة ” ، ويكشف ابن حيان النقاب عن قرى بأكملها تملكها ” كريب بن عثمان ” بكورة مورو ومثله أيضاً كان سليمان بن محمد الشذوني.
وتعرض أيضاً لذكر ” الذكوات والصدقات ” التي يتكلف الجباة بتحصيلها من الفلاحين وحتى تتمكن الخلافة من تغطية نفقات الحملات الحربية استحدثت ” مغرم الحشد ” الذي عم الجميع باستثناء المطوعة .
كما تعرض ابن حَيَّان لرصد المجاعات والأوبئة ؛ بل ويفسر سببها بدقة
أما الحالة الثقافية فالعجيب أنه وعلى النقيض من الوضع السياسي ؛ لم تكن الثقافة الأندلسية يوماً أشد إشعاعاً ، وأقوى خصوبة كما كانت عليه في تلك الفترة ففي الغالب تكون الأزمة “تحدياً” يوجب ” الاستجابة ” – حسب مفهوم ” أرنولد توينبي” وغالباً ما تناط النخبة المفكرة بريادة الاستجابة على الصعيد المعرفي
ويجمع الدارسون على ازدهار الحركة الثقافية في عصر ملوك الطوائف وذلك راجع إلى تداعيات وظلال العصر السابق ، بما يؤكد أن الظواهر الفكرية في تطورها وفي أفولها تحتاج إلى فترة زمنية طويلة
هذا وقد مجد الأندلسيون العلماء والفقهاء ورجال الأدب ، وكان لهؤلاء القيادة والريادة في المجتمع الأندلسي وقد تعصب ابن حَيَّان للمذهب السني المالكي – وهو المذهب الرسمي للدولة – الذي دخل إلى الأندلس في حياة الإمام مالك نفسه، وذلك بفضل من درسوا عليه من تلاميذه الأندلسيين ونقلوا كتابه ” الموطأ” ، وهم على التوالي الغازي بن قيس(ت 199/815) ، وزياد بن عبد الرحمن اللخمي الملقب بشبطون ، ( ت204 هـ / 819 م ) ، وهو أول من أدخل مذهبه فى الأندلس ، ويَحْيىَّ بن يَحْيىَّ اللَّيثِي ( ت234هـ / 848 م ) ، وساهم غيره من الفقهاء فى انتشار المذهب المالكى أيضاً مثل : عيسى بن دينار الغافقي الطليطلي( ت 212 هـ / 827 م ) ، ويكمن أثر المذهب المالكي في الأندلس بكونه أهم المحاور التي دارت حولها المؤلفات الأندلسية المبكرة ، شرحا وتوضيحا لكتاب الموطأ ، ودراسة لرجاله وأسانيده ، ودفاعا وانتصارا له ، وتأليفا حول المذهب بشكل عام وكان ابن حَيَّان من أشد المتحمسين لذلك المذهب ، وانعكس ذلك بوضوح على كتاباته ويظهر ذلك في هجومه على أتباع المذاهب الأخرى أصحاب ” الطائفة الخبيثة ” ” المارقة ” مثل حركة ابن مسرة ” الظنين المرتاب ” و ” المرائي بالعبادة ” الرابض بالفتنة ” ” القادح في السُنة ” . واعتبر المعز لدين الله الفاطمي ” صاحب إفريقية الممد في الضلالة ” ، ونظر إلي الفواطم عموما باعتبارهم “أهل الضلالة “. كما تحامل على أمراء المغرب المواليين للفاطميين ، فنعت الحسن بن قنون ” بالمارق ” ولعن صاحب نكور ” قبحه الله ” ووصف النكوريين ” الفاسقين ” .
كما تناول مشكلة الإمامة والخلافة ؛ فكان يرى ضرورة أن يكون ” خليفة المسلمين من قريش ” ، وحيث أن الأُمَويين من قريش ، وكانوا بالفعل ممثلين في شورى الإمامة ، فان الخلافة حق من حقوقهم ، بل يزيد فيجعل خلفاء بني أُمَيّة امتداداً طبيعياً لخلافة الراشدين فأقاموا رسوم السُنة ، وأحرزوا وظائف الديانة ”
وكان يرى ثلاث مهمات كبرى للخليفة : عسكرية وإدارية ومدنية ؛ ولذا نراه يصف حال أهل طُلَيطِلَةُ وما نالهم من الذل على أيدي العدو الإفرنجي بعد استقرار دول ملوك الطوائف أنهم ” عدموا الراعي العنوف ” ، ويقول في معرض مدحه لمسلك أبي الحزم ابن جَهْوَر في إدارة الأمور بقُرْطُبَة إن أهل قُرْطُبَة ” ولو من الجماعة أمينها المأمون عليها” ؛ أما اللقب الذي يطلقه على الناصر ” مجمع الفرقة ” ؛ فالقيام بجهاد العدو هو الذي جعله معجبا أشد الإعجاب بالناصر والمستنصر والمنصور العامري وابنه عبد الملك المُظَفَّر ، ويجعل الجهاد مطلب أساسي للأمة في مناطق الثغور ، إذا لم يلتقطه الإمام ويدفع به من القوة إلى الفعل فمن شأن ذلك الإمام أن يسقط ، فإذا قام غيره بتولي هذا الدفع ؛ فإن الأمة تلتف حوله ويصبح هو صاحب السلطة الفعلية في البلاد . وما حدث سنة 366 هـ / 976 م إثر وفاة الحكم المستنصر وتولي ابنه هشام المؤيد الخلافة نظرياً ، خير دليل على ذلك ؛ حيث تولى الأمر المنصور العامري لأنه قام بالجهاد ملبيا لطلب الأمة وهيأه لإمامة المسلمين فأورد عنواناً لذلك وهو : ” ذكر دفاع ابن أبي عامر العدو ، وقيامه بالجهاد دون الجماعة وتوصله بذلك إلى تدبير الملك “.
كما أدلى بآرائه فى حركات المنتزين – الثائرين – فى الأندلس والمغرب ، وهى فى نظره حركات خارجة عن السنة والجماعة فى الأندلس ، فمن هؤلاء المنتزين من كان هدفه ” السعى فى الأرض بالفساد والاستحلال لغنائم المسلمين ، ومنهم من كان يسعى إلى ” قطع السبيل وإشاعة الفساد فى الأرض وسفك الدماء .
ويتحدث ابن حيان عن ” سعيد بن سليمان بن جودى ” أمير العرب المنتزين بمدينة غرناطة ، ويذكر عنه ما قاله ولده عبد الله فيه من شغفه بالجوارى ، وأنه كان : ” مقدماً لهن على جميع لذاته ، ويمضى فى ذكر شغفه بشرائهن وأشعاره فيهن ويبدو فى رواية ابن حيان هذه التلازم بين الظروف السياسية وثوارت المنتزين ، والأثار المترتبة على ذلك من حيث التفكك القيمى والأخلاقى الذى أصاب المجتمع فى بعض أنماطه .
وقد تعرض لتراجم العلماء وقد قل من تجده متبحراً في علم واحد أو علمين ؛ بل فيهم من يعد من الفقهاء والمحدثين والفلاسفة والأدباء والمؤرخين واللغويين ولم يقتصروا على العلوم النظرية بل كانت لهم دراسات في علوم عملية كالفيزياء، وعلم العقاقير، والزراعة (علم الفلاحة) والذي أبدعوا فيه وصنفوا التصاميم المشهورة، مسجلين ما توصلت إليه تجاربهم في النباتات والتربة
وهذا التعدد المعرفي لعب دوراً مهماً في إثراء فكر ابن حَيَّان خاصة وأنه كان مكثرا من الاطلاع على تلك الكتب، وسهلت له تلك النهضة العلمية الاطلاع على تاريخ الممالك النصرانية أيضاً ، مما يرجح أنه كان يعرف عجمية الأندلس وأن ” ما أورده ابن حَيَّان من أخبار عن إسبانيا النصرانية ينم عن معرفته الدقيقة بكل أحوالهما وأنساب حكامها
وكان لكثرة مطالعاته التاريخية أن تجنب الروايات الخرافية والأسطورية ولم يشع ذلك في كتاباته ؛ مما كون وعى تاريخى ناقد لديه ومكنه من أن يصور ما وُجد فى البلاط الأندلسي من دسائس وفتن بين الحجاب والوزراء تصويراً نقدياً لا يعتمد على القص فقط .
ومن الناحية الثقافية : قام ابن حَيَّان بالترجمة لمشاهير الأدباء والشعراء وأعلام الفكر ، وأورد الكثير من نظمهم سواء كان نثراً أو شعراً ؛ ثم يقوم بعرض جمل من أخباره مثل ترجمته لعباس بن فرناس الذي ” نادم الأمير عبد الرحمن بن الحكم وجالسه ، وصديقه مؤمن بن سعيد الشاعر، وكذلك ترجمته للشاعر يَحْيىَّ الغزال وقد وصفه وصف الناقد البارع الحصيف فقال : ” …….
وكان مقتدراً على الشعر ، سلس الطبع فيه ، يُصرفه فى ضروب الشعر بحلاوة لفظ ، وملاحة معنى وغُزر مادة . وأكثر شعره محمول على الدعابة والهزل ، فلذلك خرج بعضه بألفاض عامية مبتذلة . وهو فيما روى ونقح محسن مُجود وكان على نصاعة أدبه ، عالماً مُفتنا جزلا ، متكلماً عريضاً مُندراً ، كبير الغور ظريف الخبر ، خالد الذكر فى الأعصر البائدة ” .
ونجده يتعرض لذكر مجالس الغناء ، و” خبر زِرْياب “، و ” المطربين ببلد الأندلس ” ، ويروي ذكر جلساء الأمير عبد الرحمن بن الحكم وسُماره الدانين إليه من شعراء أهل زمانه وأدبائهم ، ونبذ من نوادرهم وأشعارهم مما خالطه من أخبارهم .
ويسرد أخبار الشعراء ، مع الأمير عبد الرحمن بن الحكم وبعض ما سقط إلينا من أماديحهم له من ذلك ” خبر يَحْيىَّ بن حكم الغزال في إرساله إلى ملك الروم “.
ويشير أيضاً إلى شغف الأمير عبد الرحمن بن الحكم بعلم الهيئة ، ومطالعته للكتب القديمة ، صاغياً إلى علم التنجيم ، واقفاً على سنن التعديل ملياً ، يسأل علماءه عن الأدلة ، مولعاً بالوقوف على أقوالهم في أحكامه ، مقرباً لحذاق المنجمين في زمانه ، آنساً بهم ، محسناً إليهم ، مستريحاً إلى تعديلهم لأوقات حركاتهم ، وإنذارهم من طريق أقضيتهم بمساعده ومناحسه …….وكان من مشهور في زمانه ومن قبله عباس بن فرناس ، ذو الأنباء الشنيعة ، وعبد الواحد بن إسحاق الضَّبِيّ ، ذو النوادر البديعة ، ومروان بن غزوان ، ومحمد ابن عبد الله ، وعبد الله بن الشمر بن نمير نديم الأمير ، السابق في حلبتهم الزائد في تمام خصاله الأدبية على جماعتهم . فقد كان فيما ينتحلونه من علمهم إماماً لهم ، معدوداً في وجوههم ، يعول الأمير عبد الرحمن عليه في تمييز . غيب ما يطرقه من شؤونه ، ويساوره من خطوبه ، فلا يزال يبلو من صدق إصابته ، وصواب رجمه ، ما يطول منه تعجبه ، ويكثر من أجله تسآله ، فله معه ومع من سمينا من الوزير عبد الرحمن بن يَحْيىَّ الأصم ، والنعمان بن المنذر وغيرهما من رجالهم ، وما لدى أصحابه وغيرهم في هذا الباب نوادر مستغربة .
كما أشار إلى أن عبد الرحمن الأوسط أول من اتخذ كاتباً خاصاً له وسار الأمراء والخلفاء من بعده على هذا النظام حتى سقوط الخلافة.
ويحوي كتاب المقتبس بين دفتيه أيضاً تراجم عديدة لطبقات الفقهاء الأندلسيين منذ فتح الأندلس وحتى عصره معتمداً على مصادر متعددة ، كما رصد لنا ابن حَيَّان انتقال الفتاوى بالأندلس من رأى الأَوْزاعيّ، وأهل الشَّام بالكلية ” فحولت إلى رأى مالك وأهل المدينة . وانتشر رأى مالك بقُرْطُبَة ، وعم بلاد الأندلس “.
ورصد أيضاً مجالس العلم والتعليم بالأندلس ، وأخذ العلم على يد الشيوخ والفقهاء ، وأكد على أن الحكم المستنصر قد أمر ب ” تحبيس حوانيت السراجين بسوق قُرْطُبَة على المعلمين الذين قد اتخذهم لتعليم أولاد الضعفاء والمساكين بقُرْطُبَة” .
وهذا يعني أن الدولة قد تبنت تخصيص مصروفات للمدارس ، والمستعرض لكتاباته يتضح لنا مدى ما وصلت اليه الأندلس من احترام العلماء والفقهاء ورجال الأدب ، وكيف أن الأندلسي كان ينفق ما عنده من مال حتى يتعلم ومتى عُرف بالعلم أصبح في مقام التكريم والإجلال ويشير الناس اليه بالبنان.
وقد اختلفت منزلة الأشخاص باختلاف سماتهم واتجاهاتهم الشخصية ؛ فقد كان منهم طبقة بارزة أسهمت في السياسة العامة للدولة ، وظفرت لذلك بالحظوة عند الأمراء ، وقد سجل ابن حَيَّان كل ذلك في تاريخه وبدقة بالغة . مما سبق يتضح لنا أن كتب ابن حَيَّان تناولت وبتفصيل دقيق تاريخ المسلمين في الأندلس سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً مما أهله لأن يكون حامل لواء التاريخ في الأندلس .
وكان الوضع في الأندلس في تلك الفترة قد تغير تغيراً جذرياً ؛ فبعدما كانت الخلافة تجمع بين السلطتين الزمنية والروحية ، جاء الحاجب المنصور ابن أبي عامر ( 370-392هـ / 980 – 1001 م ) وأبناؤه من بعده
فانتزعوا منها السلطة الزمنية وكانت وفاة عبد الملك (المُظَفَّر) ابن المنصور العامري فاتحة لفترة مضطربة من تاريخ الأندلس بدأت بعبد الرحمن (شنجول) الذي ” ساء تصرفه وأنفق الأموال في غير وجهها ، ونُسِب إليه أباطيل القول والفعل ، واستعان بالعسكر للتحرر من نفوذ العامة وانتهى الأمر بقتله ففتح على الأندلس باباً لم يُسَد إلا بانهيار الدولة كلها ، وكان ذلك إيذاناً ببداية نهاية دولة الإسلام في الأندلس .
أن تلك الأزمة ” جديرة بأن تشحذ العقول الذكية ، وتنتج مفكرين مخلصين يصطبغ تفكيرهم بالمرارة ويحاولون البحث عن علة ذلك الداء الذي أوتى منه بلدهم ومحاولة تكوين مشروع سياسي اقتصادي اجتماعي” ومن هنا ظهر هذا الجيل من أبناء قُرْطُبَة من أمثال ابن حَيَّان وابن حَزْم ، وابن شُهَيْد ممن حاول كل منهم في ميدان علمه تقصى الحقيقة والبحث عن علاج لمحنة بلدهم ولذا نلمح في كتابات ابن حَيَّان التاريخية شيوع روح النقد لديه ؛ فنراه يعبر عن رأيه وبوضوح ؛ ففي أيام دولة الخليفة ” سليمان المستعين ” وبداية ” الفتنة البربرية ” يذكر أنها كانت : ” شِداداً نَكِدات صعاباً مَشئومات ، كريهات المبدأ والفاتحة ، قبيحة المُنْتَهَى والخاتمة … ”
ويشير ابن حَيَّان في نصوصه إلى النهب الذي حدث بقُرْطُبَة ، واجتياح التدمير بلا حساب أحياء قُرْطُبَة وهو ما كان له أبلغ الأثر في تكوين فكره السياسي ، وانعكس ذلك على كتاباته التي اتسمت بالحدة والحزن فقد كان يعتقد بأن الأندلس ينبغي أن تحتل مكان الصدارة في العالم الإسلامي ، وتشيع هذه الروح في كل كتاباته
وقد زاد من اضطراب الأوضاع في الأندلس – لاسيما قُرْطُبَة – اقتحام البربر لها ونشر الدمار بها ، ودفعت قُرْطُبَة ثمن مقاومتها أنهارا من الدماء ، وقتل الكثير من أهلها ودخلت البلاد بعدها في سلسلة من الأحداث واضطربت الأوضاع ، واستمرت النزاعات التي شارك فيها البربر والصقالبة وأهل قُرْطُبَة أنفسهم ، الأمر الذي جعل ابن حَيَّان يكن للبربر كراهية شديدة تشيع على ظاهر صفحات تاريخه ، فهو يندد بقسوتهم وحقدهم الدفين على الدولة الأندلسية ، ورغبتهم في نقض بناء الحضارة الأندلسية منذ أول لحظة يتهيأ لهم فيها ذلك وقد تتبع ابن حَيَّان تلك الأحداث وفى تفصيل دقيق .
وانتهت هذه المرحلة في سنة 417 هـ / 1026 م ، حين أجمع أهل قُرْطُبَة برئاسة الوزير أبو الحَزْم بن جَهْوَر على رد الأمر إلى بني أُمَيّة واتفقوا على مبايعة هشام بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الناصر وتلقب بالمستظهر وبعد ذلك خرج عليه ، محمد بن عبد الملك (المُسْتَكْفي ) سنة 414 هـ / 1023 م ، ويذكر ابن حَيَّان عن الخليفة المستكفى قوله : ” ولم يكن هذا المستكفى من هذا الأمر في وِرْدٍ ولا صَدَر ، وإنما أرسله الله تعالى على أهل قُرْطُبَة محنة وبلية ” وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على متابعة ابن حَيَّان للأحداث ورصدها بصورة شبه يومية وبطريقة ناقدة .
ونتيجة لتلك الأحداث تقلصت بالضرورة قوة السُلطة في الداخل وهو ما انعكس أيضاً على فكر ابن حَيَّان؛ فحاول مثل غيره من المؤرخين النابهين من أمثال ابن حَزْم أن يعمل على تحقيق وحدة الأندلس وتقوية سلطة الخلافة من جديد فنراه يعتد “بالجماعة” أو وحدة الأندلس ؛ ولذا كان يستخدم كلمة الجماعة مراراً وتكراراً فيقول : ” سلطان الجماعة ” و” إمام الجماعة ” و”أمير الجماعة ” .
وبينما كان البناء السياسي للأندلس يتصدع شيئاً فشيئاً أثناء فترة الصراع على الخلافة بين من ادعاها من أفراد البيت الأُمَوي ومن أعقبوهم من بني حَمّود انهار البناء السياسي جملة ، وضاعت الوحدة ، وتفرق أمر الجماعة وفي تلك الأثناء اجتمع شيوخ قُرْطُبَة والوزراء برئاسة أبي الحزم بن جَهْوَر واتفقوا على خلع المُعْتَد بالله – آخر خلفاء بني أُمَيّة – وإبطال رسم الخلافة جملة ونودي في الأسواق والأرباض ؛ ألا يبقى بقُرْطُبَة أحد من بني أُمَيّة ، وألا يكنفهم أحد من أهل المدينة ، وانتهى بذلك أمر بني أُمَيّة في الأندلس وزالت خلافتهم وانقطعت الدعوة لهم وأثرت تلك الواقعة تأثيرا بالغاً في فكر ابن حَيَّان ، وجعلته يتابع مصير دويلات الطوائف ، ويرصد العديد من الوقائع ، وركز على انفراط وحدة الأندلس وتفرق ملكها إلى دويلات طائفية واقتسامهم ألقاب الخلافة ؛ فوصفهم ابن حَيَّان بأنهم : ” أُمراء الفرقة الهمل الذين هم ما بين فشل وَوَكَل”
أما في قُرْطُبَة فقد اجتمع كبار أهلها بعد إلغاء الخلافة ، وأسندوا الأمر إلى ابن جَهْوَر ، وكان مشهوراً عندهم بجدارته وكفاءته لتقلد هذا المنصب وابتكر لأهل قُرْطُبَة نظاماً جديداً للحكم قائماً على الشورى ، ورأى ابن حَيَّان أنه لم يستبد بالسلطة كما استبد غيره من ملوك الطوائف ، وإنما كون مجلساً للحكم من شيوخ أهل قُرْطُبَة وانتخب أميناً لهذا المجلس ، وكان لا يصرف أمراً إلا بعد الرجوع إلى جماعة الشيوخ هؤلاء وكان من جراء ذلك أن اختار ابن حَيَّان المقام في قُرْطُبَة في ظل الجَهاوِرَة لأنهم في نظره خير بيئة يستطيع فيها أن يسجل أحداث عصره ، وفيها استطاع أن يعبر عن سلبيات المجتمع الأندلسي خاصة بعد تمزق الأندلس على هذا النحو ، وقد انتقد ملوك الطوائف فى عصره خاصة في تربص بعضهم لبعض ، واستعانتهم بالنصارى لتنفيذ مخططاتهم .
وبصفة عامة – وكما يرى الدكتور محمود إسماعيل – أن ” الانتكاسات التاريخية في حياة الشعوب ليست شراً مستطيراً على طول الخط ؛ بل قد تسفر عن ايجابيات بصدد الفكر وتطوره ، إذ غالباً ما تفضي إلى استنفار النخبة المفكرة لاستقراء أسباب وعلل تلك الانتكاسات ”
وعلى الصعيد الاقتصادي وبعد انهيار وسقوط الخلافة حدثت الانتكاسة وعم الكساد الاقتصادي وتدهور العمران ، وحفل العصر بالأزمات إلى حد المجاعة وأفل نجم قُرْطُبَة عمرانياً وبشرياً ، وصور ابن حَيَّان الوضع قائلاً : “… وطمست أعلام قصر الزهراء ….. فطوى بخرابها بساط الدنيا وتغير حسنها ، إذ كانت جنة الأرض ،فعدا عليها قبل تمام المائة من كان أضعف قوة من فارة المسك ، وأوهن بنية من بعوضة النمروذ ، والله يسلط جنوده على من يشاء ، له العزة والجبروت ”
وتحولت المدن التجارية المزدهرة إلى قلاع وحصون عسكرية الأمر الذي لقي تنديد ابن حَيَّان ، ويشيع ذلك في صفحات كتابه ” المتين ” ومثال على ذلك ما أشار إليه في فطنة بالغة عن سوء الأحوال الاقتصادية نتيجة الوضع المتردي في بمدينة بَطَلْيَوْس نتيجة النزاع بين المعتضِد بن عَبَّاد والأَفْطَس ؛ فقال : ” بقيت بَطَلْيَوْس مدةً خالية الدكاكين والأسواق من استئصال القتل لأهلها في وقعة ابن عَبَّاد هذه بفتيان أغمارٍ إلا الشيوخ والكهول الذين أصيبوا يومئذ . فاستدللت بذلك على فشو المصيبة فتوقع برؤية ثاقبة عما سيحل بعد ذلك من كوارث اقتصادية .
وانتشرت في الأندلس ” الكُوَر المجندة ” نتيجة لكثرة الحروب الأهلية، فنزل جند دمشق في كورة إلْبِيرَة وجند حَمْص في كورة إشبِيلِيّة وجند الأردن في كورة مالطة ، وجند قِنَّسْرِين في كورة باجة وبعضهم بكورة تُدْمِير فهذه منازل العرب الشَّاميين، وبقي العرب والبربر والبلديون شركاءهم ، كما تعاظم “إقطاع التجار” نتيجة شرائهم بعض إقطاعات الخلفاء والولاة . وفي ظل هذا الحكم اضطرب الوضع الاقتصادي ، واشتد الغلاء وانتشرت الأوبئة ، وعمت الكوارث ، وانعدم الاستقرار والأمن .
ولجأ الملوك من أجل إرضاء نزواتهم وتحقيق لذاتهم إلى إثقال كاهل رعاياهم بالضرائب فانعكس ذلك الوضع على كتابات ابن حَيَّان فوصف ذلك الوضع المتردي في مرارة واضحة بقوله ” فما أقول فى أرض فسد ملحها الذى هو المصلح لجميع أغذيتها ؟ هل هى إلا مشفية على بوارها واستئصالها ؟ ولقد طمى العجب من أفعال هؤلاء الأمراء … أمور لو تدبرها حكيم إذن لنهى وهبب ما استطاعا
وعلى الصعيد الاجتماعي شهد المجتمع الأندلسي في ظل الخلافة والحِجابة مرحلة المزج والانصهار بين العرقيات المتنوعة ليحدث نوع من التجانس لم تشهده الأندلس من قبل ؛ إلا أن السخائم العرقية والإقليمية عادت مرة أخرى لتؤثر سلبياً في هذا التجانس، ولتمزق وحدة الأندلس من جديد بظهور النزعة العنصرية ؛ ولذا لم يغب عن ابن حَيَّان أيضاً أن يعبر عن تلك النزعة في الأندلس في تلك الفترة وذلك من خلال حديثه عن اجتماع خازني بيت المال في عهد الأمير محمد ، وهما ” عبد الله بن عثمان بن بسيل ، ومحمد بن وليد بن غانم ” واستدعى الأمر أن يكتب ابن غانم كتاباً قدم نفسه فيه ، فما كان من ابن بسيل إلا أن قام له : ” والله لا أطبع كتاباً تتقدمني أنت فيه ، وأنا شامي وأنت بلدي ”
ويشير أيضاً إلى الفتنة بين اليمية والمضرية فقال : ” وكان ابتداء فتنة أهل الجزيرة وانبعاثها بالمعصية بين اليمانية والمضرية أن أطلق بعضهم على بعض الغارات واستحلوا الحرمات وتخلقوا بأخلاق الجاهلية ، واتخذوا الحصون والمعاقل المنيعة فارتقوا اليها وأذلوا البسائط ”
وقد كانت هناك طبقة الأُمراء والحكام وذوو الثراء وأصحاب الوظائف الكبرى ، وكانوا يمتلكون ثروات طائلة تمثلت في الضياع الواسعة ، والقصور الخاصة ، وتفننوا في صنوف من البذخ والناظر إلى روايات ابن حَيَّان يجد أن الغالب عليها تصويره مثالب الطبقة الحاكمة ، ولم يغب عنه تصرفات الحكام وشغفهم بالبناء إلى حد الإسراف والبذخ ويتضح هذا ـ فيما نقله عن معاوية بن هشام ـ عند ذكره لقيام الأمير محمد بتحسين قصر الخلافة فيقول : أنه بلغ من تحُسَينه إياه مبلغاً ” تَوَفَّتْ به الكمال ، واكتسبت الجمال ، فشفيت به أدواء النفوس ، وضرب بحسنها المثل ”
كما رصد بن حَيَّان انحراف الحُجاب والوزراء ، واستطاع أن يلقي الضوء حول طبيعة حياة الأمراء من خلال المعايشة ، وقد أشار إلى ما أصاب أهل الأندلس من نفاق وقلة وفاء وميل مع من يبقى في المنصب ، كما لم يغب عنه أن يصور بعض تجاوزات الولاة وظلمهم كما صور دور الجواري في بلاط حكام الأندلس ، وانتقد ما كان يقمن به من دسائس وهذه الرؤية النقدية ما كانت لتحدث لولا ظروف عصره التي دفعته إلى ذكر ما وصل إليه حال الأندلس من انقسام وتفكك
ونراه لا يغفل الإشارة إلى حال ” مشيخة الشورى ” أواخر عهد الخلافة الأُمَوية بالأندلس ، ويتضح هذا عند حديثه عن الخليفة هشام المُعْتَد الذي يقول عنه : ” وزاد فى رزق مشيخة الشورى من مال العين ، ففرض لكل واحد خمسة عشر ديناراً مشاهرة ، فقبلوا ذلك على خبث أصله ، وتساهلوا فى أكل ما لم يستطبه فقيه قبلهم ”
وكانت هناك طبقة أخرى تعاني ألوان العسف والتنكيل ، ويطلق عليهم لقب العوام وهم الفئة المهمشة في التاريخ ولا يأتي ذكرهم في الغالب الا عند التأريخ للكوارث كالمجاعات والأوبئة ، أو من خلال ذكر حركات المعارضة التي جري تهميشها بالمثل ودمغها بأبشع التهم والنعوت وتتكون هذه الطبقة من الفلاحين في الريف والحرفيين والعمال في المدن وأغلبها من البربر أو المولدين أو الموالي وكان على هذه الطبقة أن تتحمل أعباء ضرائب باهظة كانت تُفرَض عليها وكانت تقوم بينهم وبين الدولة هوة سحيقة من سوء الظن وعدم الثقة وكان لهذا التدني أثره على ابن حَيَّان في معارضته لهذه المظاهر في كتبه وتنديده بفاعليها ويقول واصفاً أحد هؤلاء المغالين في جمع الضرائب : ” ونعي إلينا فلان، وكان فظاً قاسياً ظنيناً جشعاً جباراً مستكبراً قليل الرحمة نزر الإسعاف زاهداً في اصطناع المعروف، أحد الجبابرة القاسطين على الرعية، المجترين على رد أحكام الشريعة وكان مهلكه – زعموا – من طاعونة طلعت عليه ببعض أطرافه، فتجاسر على قطعها بفرط جهالته، فمات معذباً في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد
تعددت مجالات المعرفة الاجتماعية والثقافية التي طرقها ابن حَيَّان عكست لنا ألواناً من الحياة الأندلسية الاجتماعية والثقافية ، ويعتبر تاريخه الكبير أدق وثيقة مفصلة للحياة الثقافية والفكرية للأندلس ؛ فنراه يرصد العديد من الظواهر الاجتماعية عندما يصور شرائح المجتمع بما فيها من صور الوشاية ، والذم ، والمكائد ، وفساد القضاة ” وقد انطبقت أرض الأندلس نفاقاً واستعرت خلافاً ذلك بإغفال من كان قبله لحسم من كان ينجم من قرن النفاق حتى تفاقم الأمر بعد تطاوله ، وتفاوت الشئ بعد قرب تداركه واستعجل شر عمر بن حفصون جرثومة النفاق وانتزى أكثر بلاد الأندس اقترانه .
ومن الأقوال التى ذكرها ابن حيان ، والدالة على وجود شهادات الزور فى الأندلس ، حديثه عن ” محمد بن غالب ” من أهل إستجة ، كان قد طلب من الأمير عبد الله بناء حصن بقرية ، شنت طرس ” ، وهدفه من ذلك حماية الطريق ، ومنع المفسدين وقطاع الطرق من إلحاق الأذى بالمسلمين ، وعندما تم بناء الحصن حسده ، بنو خلدون وبنو الحجاج ” وقامت الحرب بينهما ، وادعى بنو حجاج على إثر هذه الحرب أن محمد بن غالب أغتال رجلاً من قرابتهم ….. واستدعوا عليه الشهادات المزورة .
كما عكس الصراع الذي كان يدور بين الفقهاء والخليفة وكيف أن الخليفة كان يكره أن يكون القاضي قوياً ، وهو ما صوره تحت عنوان ” نوادر من أخبار قضاة الأمير عبد الرحمن “. ومن هذه النوادر أيضاً نستشف النفوذ القوي الذي كان يتمتع به الفقهاء في الدولة ، والدليل على ذلك أن الأمير عبد الرحمن قلما يولي قاضياً إلا عن مشورة يَحْيىَّ بن يَحْيىَّ اللَّيثِي وفي ذلك يقول ابن حَيَّان : ” وغلب يَحْيىَّ بن يَحْيىَّ جميعهم على رأي الأمير عبد الرحمن ، وألوى بإيثاره ، فصار يلتزم من إعظامه وتكريمه وتنفيذ أموره ما يلتزم الوالد لأبيه ، فلا يستقضي قاضيا ، ولا يعقد عقدا ، ولا يمضي في الديانة أمرا ، إلا عن رأيه وبعد مشورته ” .
كما صور لنا بخل الأمير عبد الله بن محمد ، وشيوع حوادث الرشوة بالغصب في عهده ، كما صور بعض معايب عبد الرحمن الناصر وتبرز استهتاره باللذات وتغليظ العقوبات ، وتهوين الدماء ، والعبث في الرعية. ونرى ذلك أيضاً عندما يتحدث عن النسـاء وشغف الأمير عبد الرحمن بهن فيقول : ” كان الأمير عبد الرحمن مُستهتراً بالنساء ، شديد الميل إليهن ، والإعجاب بهن ، والبذل لهن ، والاستكثار منهن ، والهوى فيهن ” .
كما سجل مظاهر الاحتفال بالأعياد والمناسبات وكيف كان الشعراء والخطباء في هذه الاحتفالات ” تتناغى فيما ترتجل من خطبها وتنشد من أشعارها فتكثر وتجيد ” ، أما الاحتفال الرسمي من قِبَل الخلفاء بالأعياد فقد أطنب في وصفها ابن حيان .
ولم يغب عنه أن يعبر عن مظاهر البذخ التي كانت تتسم بها حفلات استقبال الحكام الأندلسيين لمن يفد عليهم ، ولذلك يقول عن يوم استقبال الخليفة الحكم المستنصر لجعفر بن على ومن معه إنه : “أحد الأيام العقم بقُرْطُبَة في اكتمال حسنة وجلالة قدره ، خلد حديثه زمناً في أهلها ، قاضياً من عجب الجلالة ، وكل شيئاً فإلى انقضاء إلا إله الأرض والسماء تعالى جده.
ومن الصور الاجتماعية التى اهتم ابن حيان بتسجيلها فى تاريخه حفلات المجون والتبذير للأمراء والخلفاء والوزراء ؛ منها على سبيل المثال حادثة احتفال المأمون بن ذى النون بإعذار حفيده يحيى ، تلك الحادثة التى احتلت عدداً غير قليل من الصفحات، يقول فى الإعداد لها : ”
وأمر ـ المأمون ـ بالاستكثار من الطهاة والاتقاء للقدور ، والإتراع للجفان ، والصلة لأيام الطعام ، والمشاكلة بين مقادير الأخباز والآدام ، والإغراب فى صنعة ألوانها ، مع شياب أباريقها بالطيوب الزكية ، والقران فيها بين الأضداد المخالفة ما بين حار وبارد ، وحلو وحامض ،والمماثلة بين رائق أشخاصها ، وبين ما تودع فيها من نفائس صحافها ……… ” .
وكان المدعوون إلى هذه الاحتفالات التى استمرت أياما أشتاتا من الناس من صفوة وعامة , وقد لقى الجميع من الاحتفاء بهم والتكريم لذواتهم ما يمكن أن يشابه ترتيب إدارات المراسم والتشريفات بالقصور الملكية ووصف ابن حيان طائفة القضاة على المائدة فى غرفة أسرف وفى وصفها ، فإذا انتهوا من الطعام يكمل الجانب التالى من رحلة الدعوة على هذا النحو : ”
ولما فرغت تلك الطائفة جئ بهم إلى المجلس المرسوم لوضوئهم ، وقد فرش ايضا بوطاء الوشى الرقوم بالذهب ، وعلقت فيه ستور مثقلة مماثلة …… ثم نقلوا إلى مجلس التطييب ، أفخم تلك المجالس ، وهو المجلس المطل على النهر ، العالى البناء ، السامى السناء ، فشرع فى تطييبهم فى مجامر الفضة البديعة بفلق العود الهندى ، المشوبة بقطع العنبر الفستقى ، بعد أن نديت أعراض ثيابهم بشابيب الماء الورد الجورى ، يصب فوق رؤوسهم من أوانى الزجاج المجدود ، وفياشات البلور المحفورة “.
والذي يعنينا من هذا النص أمور كثيرة ، من أهمها الإسراف ، والذى يتابع القصة بأكملها حسبما رواها بتفصيلاتها ومجالس القصف فيها وإنشاد الشعر فى مناسبتها وما قد خلعه الأمير عليهم برغم تدنى أشعارهم ، كل ذلك كان هدفا من أهداف أبى حيان فى تعرية ملوك الطوائف الذين يقتلون المال والبشر ، ويقاتل بعضهم بعضاً والعدو متربص بهم ، متحفز على أبوابهم .
وكشف ابن حيان عن دور العنصر النسائى فى بلاد الأندلس ، مثلما صور ما كانت تقوم به جارية الخليفة الناصر ” مرجان ” ، من حيل ضد السيدة فاطمة القرشية بنت أخى جده المنذر بن محمد الأمير ، وكان الناصر يقول لجاريته مرجان هذه : ” فاقتادينى إلى قصرك فإنى طوع يمينك وحبيس هواك ، وكان ذلك على إثر الحيلة التى دبرتها لصرفه عن ابنة عمه فاطمة القرشية ، ويقول ابن حيان عن هذه الجارية معتمداً فى ذلك على ما قاله القبشى : فتقدمت لديه جميع نسوانه حتى كانت كرائمه وحظاياه لا يصلن إلى مطالبهن ورغباتهن من الناصر لدين الله إلا بشفاعة مرجان لهن ، وتوسلهن بها لديه للطف منزلتها وغلبتها على قلبه …………
وصور لنا مكانة الجواري في المجتمع الأندلسي فيورد لنا قصة الجارية مرجان التي كانت من أحب الجواري إلى قلب الخليفة الناصر وأنجبت له ابنه الحكم ، فكانت أثيرة الخليفة لا يسلو بدون رؤيتها ولا يكتم علها سراً ، وإذا مرض حُمِل إلى بيتها .
وقد أمدنا ابن حيان بسيل من النصوص ، على جانب كبير من الأهمية وتكشف النقاب عن الوضعية الاجتماعية لعدد كبير من فئات المجتمع الأندلسي ومنهم على سبيل المثال : الفقهاء حيث أماط اللثام عن النفوذ الاجتماعي – والسياسي بالطبع – للفقهاء ، وكيف كان الأمراء والخلفاء يخشون تقلب الفقهاء عليهم مثلما أورد فى ما نقله من كتاب الاحتفال ما يشير إلى أن الأمير عبد الرحمن بن الحكم كان يكره تألب الفقهاء عليه …… ويقلق منهم ويسميهم سلسلة السوء ” .
وابن حيان لا يغفل أيضاً ذكر الآثار المترتبة على النواحى السياسية من إصابة المؤدبين وكساد الناحية التعليمية للصبيان والمؤدبين ،هذا فضلاً عما تكشف عنه روايته من قتل المغنيين والطنبوريين ، وهذا يشير إلى ألوان البذخ واللهو فى الأندلس فى ” فترة الفتنة ” .
واستطاعت روايات ابن حيان التاريخية أن تكشف عن إزدواجية الشخصية الأندلسية ، وذلك عند حديثه عن ” عبدالله بن عاصم ” صاحب الشرطة بقرطبة ، على عهد الأمير محمد ، الذى مر به ، يوما فتى حسن الشارة يترنح سكراً ، فأمر بأخذه ، فوجدت به رائحة الشرب ، فأمر بجلده ، فلما جُرد للجلد أقبل على ابن عاصم ، فقال له : ناشدتك الله ، من الذى يقول :
إذا عاب شرب الخمر فى الدهر عائب فلا ذاقها من كان يوما يعيبها
فقال له ابن عاصم : أنا ، وأستغفر الله منه ، فقال له الفتى : فلا تستحيه عن وجهه حين تغرى بالشرب وتحض عليه ، ثم تكشف عنه وتعاقب فيه ؟ فأفحمه ودرأ الحد عنه .
وما أكثر ما ترد فى ثنايا تاريخ ابن حيان ملاحظات وتعليقات نفذ بها إلى الكشف عن العيوب الدفينة فى المجتمع الأندلسي ، هذه العيوب التى أدت شيئا فشيئاً إلى تحللها وتصدعها ، وكأنه السرطان الخفى يستشرى فى باطن جسد ظاهره الصحة والقوة . وهى عيوب بدأت منذ أيام الحكم المستنصر ، ثم استفحل داؤها على عهد الدولة العامرية . غير أن الأمجاد العسكرية والقوة الظاهرية كانت تلقى عليها حجابا كثيفا سترها عن الأنظار . لقد كانت الفتنة تحثم تحت هذه القشرة الظاهرة من القوة والعظمة ، فلما تصدعت واجهة الدولة بعد وفاة المظفر بن المنصور بن أبى عامر إذا بهذا البنيان الشامخ ينهار فى لحظات ، وإذا ينير ان الفتنة المبيرة تندلع معلنة بداية نهاية الإسلام فى الأندلس .
كما رصد سوء الأحوال الاقتصادية المترتبة على المنازعات والحروب خاصة بين ملوك الطوائف ؛ فنراه يصف ما حدث بمدينة بَطَلْيَوْس نتيجة النزاع بين المعتضِد العَبّادي والأَفْطَس بأنها ” مصيبة ” ، حيث ” خلت الدكاكين والأسواق ” . ويصف القسوة التي استخدمت في جمع الضرائب غير الشرعية بمدينة شاطبة بكل أنواع العنف حتى تساقطت الرعية ولم تصمد في وجه هذا الظلم” . ومن هنا يتضح مدى اهتمام ابن حَيَّان برصد الجوانب الاقتصادية دون الاقتصار على الجانب السياسي فقط .
كما أرخ للوضعية الجبائية والمالية مثل ما أرخه حول الوضعية الجبائية والمالية للدولة العامرية ؛ فيقول ابن الخطيب في أعمال الأعلام : ” ذكر أبو مروان خلف رحمه الله في كتابه …المسمى بأخبار الدولة العامرية … فقال : ” كان مبلغ جباية آخر أيام المنصور أربعة آلاف دينار سوى رسوم المواريث بقُرْطُبَة وكور الأندلس كانت تجري على الأمانة وسوى مال السبي والمغانم على اتساعه في هذه وسوى ما يتصل به السلطان من المصادرات ومثل ذلك مما لا يرجع إلى قانون ، قال : وكانوا يعتدونها أربع بيوت تأخذ النفقات السلطانية منها على المشاهرة بالزيادة والنقصان ما بين الشهر والشهر مائتي ألف دينار إلى مائة وخمسين ألفا إلى أن يدخل شهر يونيه العجمي فيتضاعف فيه الإنفاق من اجل الاستعداد لغزو الصائفة فينتهي منه إلى خمسمائة ألف دينار وأكثر منها وما فضل من المال بعد جميع النفقات أحرزه السلطان في بيت ماله مع غير ذلك من ضروب استفاداته ، كما تعرض للحديث عن أهل البيوتات الذين اتخذوا الضياع الواسعة منهم بني حجاج الذين امتلكوا في ” باديتهم بالسند المنسوب اليهم على خمسة عشر ميلاً من الحاضرة “، وكذلك ” الإلهانيين والمعافريين وبني خلدون الإشبيليين اللذين اكتسبوا الضياع سواء بالبادية أو الحاضرة ” ، ويكشف ابن حيان النقاب عن قرى بأكملها تملكها ” كريب بن عثمان ” بكورة مورو ومثله أيضاً كان سليمان بن محمد الشذوني.
وتعرض أيضاً لذكر ” الذكوات والصدقات ” التي يتكلف الجباة بتحصيلها من الفلاحين وحتى تتمكن الخلافة من تغطية نفقات الحملات الحربية استحدثت ” مغرم الحشد ” الذي عم الجميع باستثناء المطوعة .
كما تعرض ابن حَيَّان لرصد المجاعات والأوبئة ؛ بل ويفسر سببها بدقة
أما الحالة الثقافية فالعجيب أنه وعلى النقيض من الوضع السياسي ؛ لم تكن الثقافة الأندلسية يوماً أشد إشعاعاً ، وأقوى خصوبة كما كانت عليه في تلك الفترة ففي الغالب تكون الأزمة “تحدياً” يوجب ” الاستجابة ” – حسب مفهوم ” أرنولد توينبي” وغالباً ما تناط النخبة المفكرة بريادة الاستجابة على الصعيد المعرفي
ويجمع الدارسون على ازدهار الحركة الثقافية في عصر ملوك الطوائف وذلك راجع إلى تداعيات وظلال العصر السابق ، بما يؤكد أن الظواهر الفكرية في تطورها وفي أفولها تحتاج إلى فترة زمنية طويلة
هذا وقد مجد الأندلسيون العلماء والفقهاء ورجال الأدب ، وكان لهؤلاء القيادة والريادة في المجتمع الأندلسي وقد تعصب ابن حَيَّان للمذهب السني المالكي – وهو المذهب الرسمي للدولة – الذي دخل إلى الأندلس في حياة الإمام مالك نفسه، وذلك بفضل من درسوا عليه من تلاميذه الأندلسيين ونقلوا كتابه ” الموطأ” ، وهم على التوالي الغازي بن قيس(ت 199/815) ، وزياد بن عبد الرحمن اللخمي الملقب بشبطون ، ( ت204 هـ / 819 م ) ، وهو أول من أدخل مذهبه فى الأندلس ، ويَحْيىَّ بن يَحْيىَّ اللَّيثِي ( ت234هـ / 848 م ) ، وساهم غيره من الفقهاء فى انتشار المذهب المالكى أيضاً مثل : عيسى بن دينار الغافقي الطليطلي( ت 212 هـ / 827 م ) ، ويكمن أثر المذهب المالكي في الأندلس بكونه أهم المحاور التي دارت حولها المؤلفات الأندلسية المبكرة ، شرحا وتوضيحا لكتاب الموطأ ، ودراسة لرجاله وأسانيده ، ودفاعا وانتصارا له ، وتأليفا حول المذهب بشكل عام وكان ابن حَيَّان من أشد المتحمسين لذلك المذهب ، وانعكس ذلك بوضوح على كتاباته ويظهر ذلك في هجومه على أتباع المذاهب الأخرى أصحاب ” الطائفة الخبيثة ” ” المارقة ” مثل حركة ابن مسرة ” الظنين المرتاب ” و ” المرائي بالعبادة ” الرابض بالفتنة ” ” القادح في السُنة ” . واعتبر المعز لدين الله الفاطمي ” صاحب إفريقية الممد في الضلالة ” ، ونظر إلي الفواطم عموما باعتبارهم “أهل الضلالة “. كما تحامل على أمراء المغرب المواليين للفاطميين ، فنعت الحسن بن قنون ” بالمارق ” ولعن صاحب نكور ” قبحه الله ” ووصف النكوريين ” الفاسقين ” .
كما تناول مشكلة الإمامة والخلافة ؛ فكان يرى ضرورة أن يكون ” خليفة المسلمين من قريش ” ، وحيث أن الأُمَويين من قريش ، وكانوا بالفعل ممثلين في شورى الإمامة ، فان الخلافة حق من حقوقهم ، بل يزيد فيجعل خلفاء بني أُمَيّة امتداداً طبيعياً لخلافة الراشدين فأقاموا رسوم السُنة ، وأحرزوا وظائف الديانة ”
وكان يرى ثلاث مهمات كبرى للخليفة : عسكرية وإدارية ومدنية ؛ ولذا نراه يصف حال أهل طُلَيطِلَةُ وما نالهم من الذل على أيدي العدو الإفرنجي بعد استقرار دول ملوك الطوائف أنهم ” عدموا الراعي العنوف ” ، ويقول في معرض مدحه لمسلك أبي الحزم ابن جَهْوَر في إدارة الأمور بقُرْطُبَة إن أهل قُرْطُبَة ” ولو من الجماعة أمينها المأمون عليها” ؛ أما اللقب الذي يطلقه على الناصر ” مجمع الفرقة ” ؛ فالقيام بجهاد العدو هو الذي جعله معجبا أشد الإعجاب بالناصر والمستنصر والمنصور العامري وابنه عبد الملك المُظَفَّر ، ويجعل الجهاد مطلب أساسي للأمة في مناطق الثغور ، إذا لم يلتقطه الإمام ويدفع به من القوة إلى الفعل فمن شأن ذلك الإمام أن يسقط ، فإذا قام غيره بتولي هذا الدفع ؛ فإن الأمة تلتف حوله ويصبح هو صاحب السلطة الفعلية في البلاد . وما حدث سنة 366 هـ / 976 م إثر وفاة الحكم المستنصر وتولي ابنه هشام المؤيد الخلافة نظرياً ، خير دليل على ذلك ؛ حيث تولى الأمر المنصور العامري لأنه قام بالجهاد ملبيا لطلب الأمة وهيأه لإمامة المسلمين فأورد عنواناً لذلك وهو : ” ذكر دفاع ابن أبي عامر العدو ، وقيامه بالجهاد دون الجماعة وتوصله بذلك إلى تدبير الملك “.
كما أدلى بآرائه فى حركات المنتزين – الثائرين – فى الأندلس والمغرب ، وهى فى نظره حركات خارجة عن السنة والجماعة فى الأندلس ، فمن هؤلاء المنتزين من كان هدفه ” السعى فى الأرض بالفساد والاستحلال لغنائم المسلمين ، ومنهم من كان يسعى إلى ” قطع السبيل وإشاعة الفساد فى الأرض وسفك الدماء .
ويتحدث ابن حيان عن ” سعيد بن سليمان بن جودى ” أمير العرب المنتزين بمدينة غرناطة ، ويذكر عنه ما قاله ولده عبد الله فيه من شغفه بالجوارى ، وأنه كان : ” مقدماً لهن على جميع لذاته ، ويمضى فى ذكر شغفه بشرائهن وأشعاره فيهن ويبدو فى رواية ابن حيان هذه التلازم بين الظروف السياسية وثوارت المنتزين ، والأثار المترتبة على ذلك من حيث التفكك القيمى والأخلاقى الذى أصاب المجتمع فى بعض أنماطه .
وقد تعرض لتراجم العلماء وقد قل من تجده متبحراً في علم واحد أو علمين ؛ بل فيهم من يعد من الفقهاء والمحدثين والفلاسفة والأدباء والمؤرخين واللغويين ولم يقتصروا على العلوم النظرية بل كانت لهم دراسات في علوم عملية كالفيزياء، وعلم العقاقير، والزراعة (علم الفلاحة) والذي أبدعوا فيه وصنفوا التصاميم المشهورة، مسجلين ما توصلت إليه تجاربهم في النباتات والتربة
وهذا التعدد المعرفي لعب دوراً مهماً في إثراء فكر ابن حَيَّان خاصة وأنه كان مكثرا من الاطلاع على تلك الكتب، وسهلت له تلك النهضة العلمية الاطلاع على تاريخ الممالك النصرانية أيضاً ، مما يرجح أنه كان يعرف عجمية الأندلس وأن ” ما أورده ابن حَيَّان من أخبار عن إسبانيا النصرانية ينم عن معرفته الدقيقة بكل أحوالهما وأنساب حكامها
وكان لكثرة مطالعاته التاريخية أن تجنب الروايات الخرافية والأسطورية ولم يشع ذلك في كتاباته ؛ مما كون وعى تاريخى ناقد لديه ومكنه من أن يصور ما وُجد فى البلاط الأندلسي من دسائس وفتن بين الحجاب والوزراء تصويراً نقدياً لا يعتمد على القص فقط .
ومن الناحية الثقافية : قام ابن حَيَّان بالترجمة لمشاهير الأدباء والشعراء وأعلام الفكر ، وأورد الكثير من نظمهم سواء كان نثراً أو شعراً ؛ ثم يقوم بعرض جمل من أخباره مثل ترجمته لعباس بن فرناس الذي ” نادم الأمير عبد الرحمن بن الحكم وجالسه ، وصديقه مؤمن بن سعيد الشاعر، وكذلك ترجمته للشاعر يَحْيىَّ الغزال وقد وصفه وصف الناقد البارع الحصيف فقال : ” …….
وكان مقتدراً على الشعر ، سلس الطبع فيه ، يُصرفه فى ضروب الشعر بحلاوة لفظ ، وملاحة معنى وغُزر مادة . وأكثر شعره محمول على الدعابة والهزل ، فلذلك خرج بعضه بألفاض عامية مبتذلة . وهو فيما روى ونقح محسن مُجود وكان على نصاعة أدبه ، عالماً مُفتنا جزلا ، متكلماً عريضاً مُندراً ، كبير الغور ظريف الخبر ، خالد الذكر فى الأعصر البائدة ” .
ونجده يتعرض لذكر مجالس الغناء ، و” خبر زِرْياب “، و ” المطربين ببلد الأندلس ” ، ويروي ذكر جلساء الأمير عبد الرحمن بن الحكم وسُماره الدانين إليه من شعراء أهل زمانه وأدبائهم ، ونبذ من نوادرهم وأشعارهم مما خالطه من أخبارهم .
ويسرد أخبار الشعراء ، مع الأمير عبد الرحمن بن الحكم وبعض ما سقط إلينا من أماديحهم له من ذلك ” خبر يَحْيىَّ بن حكم الغزال في إرساله إلى ملك الروم “.
ويشير أيضاً إلى شغف الأمير عبد الرحمن بن الحكم بعلم الهيئة ، ومطالعته للكتب القديمة ، صاغياً إلى علم التنجيم ، واقفاً على سنن التعديل ملياً ، يسأل علماءه عن الأدلة ، مولعاً بالوقوف على أقوالهم في أحكامه ، مقرباً لحذاق المنجمين في زمانه ، آنساً بهم ، محسناً إليهم ، مستريحاً إلى تعديلهم لأوقات حركاتهم ، وإنذارهم من طريق أقضيتهم بمساعده ومناحسه …….وكان من مشهور في زمانه ومن قبله عباس بن فرناس ، ذو الأنباء الشنيعة ، وعبد الواحد بن إسحاق الضَّبِيّ ، ذو النوادر البديعة ، ومروان بن غزوان ، ومحمد ابن عبد الله ، وعبد الله بن الشمر بن نمير نديم الأمير ، السابق في حلبتهم الزائد في تمام خصاله الأدبية على جماعتهم . فقد كان فيما ينتحلونه من علمهم إماماً لهم ، معدوداً في وجوههم ، يعول الأمير عبد الرحمن عليه في تمييز . غيب ما يطرقه من شؤونه ، ويساوره من خطوبه ، فلا يزال يبلو من صدق إصابته ، وصواب رجمه ، ما يطول منه تعجبه ، ويكثر من أجله تسآله ، فله معه ومع من سمينا من الوزير عبد الرحمن بن يَحْيىَّ الأصم ، والنعمان بن المنذر وغيرهما من رجالهم ، وما لدى أصحابه وغيرهم في هذا الباب نوادر مستغربة .
كما أشار إلى أن عبد الرحمن الأوسط أول من اتخذ كاتباً خاصاً له وسار الأمراء والخلفاء من بعده على هذا النظام حتى سقوط الخلافة.
ويحوي كتاب المقتبس بين دفتيه أيضاً تراجم عديدة لطبقات الفقهاء الأندلسيين منذ فتح الأندلس وحتى عصره معتمداً على مصادر متعددة ، كما رصد لنا ابن حَيَّان انتقال الفتاوى بالأندلس من رأى الأَوْزاعيّ، وأهل الشَّام بالكلية ” فحولت إلى رأى مالك وأهل المدينة . وانتشر رأى مالك بقُرْطُبَة ، وعم بلاد الأندلس “.
ورصد أيضاً مجالس العلم والتعليم بالأندلس ، وأخذ العلم على يد الشيوخ والفقهاء ، وأكد على أن الحكم المستنصر قد أمر ب ” تحبيس حوانيت السراجين بسوق قُرْطُبَة على المعلمين الذين قد اتخذهم لتعليم أولاد الضعفاء والمساكين بقُرْطُبَة” .
وهذا يعني أن الدولة قد تبنت تخصيص مصروفات للمدارس ، والمستعرض لكتاباته يتضح لنا مدى ما وصلت اليه الأندلس من احترام العلماء والفقهاء ورجال الأدب ، وكيف أن الأندلسي كان ينفق ما عنده من مال حتى يتعلم ومتى عُرف بالعلم أصبح في مقام التكريم والإجلال ويشير الناس اليه بالبنان.
وقد اختلفت منزلة الأشخاص باختلاف سماتهم واتجاهاتهم الشخصية ؛ فقد كان منهم طبقة بارزة أسهمت في السياسة العامة للدولة ، وظفرت لذلك بالحظوة عند الأمراء ، وقد سجل ابن حَيَّان كل ذلك في تاريخه وبدقة بالغة . مما سبق يتضح لنا أن كتب ابن حَيَّان تناولت وبتفصيل دقيق تاريخ المسلمين في الأندلس سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً مما أهله لأن يكون حامل لواء التاريخ في الأندلس .
0 التعليقات:
إرسال تعليق